الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **
قوله: (سبب كفر بني آدم)، السبب في اللغة: ما يتوصل به إلى غيره، ومنه قوله تعالى: ومنه أيضا سمي الحبل سببا؛ لأنه يتوصل به إلى استسقاء الماء من البئر. وأما في الاصطلاح عند أهل الأصول؛ فهو الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم. أي: إذا وجد السبب وجد المسبب، وإذا عدم عدم المسبب؛ إلا أن يكون هناك سبب آخر يثبت به المسبب. قوله: (بني آدم)، يشمل الرجال والنساء؛ لأنه إذا قيل: بون فلان، وهم قبيلة: شمل ذكورهم وإناثهم، أما إذا قيل: بنوفلان، أي رجل معين؛ فالمراد بهم الذكور. قوله: (وتركهم)، يعني: وسبب تركهم. قوله: (دينهم)، مفعول ترك؛ لأن ترك مصدر مضاف إلى فاعله، و(دينهم) يكون مفولًا به. قوله: (هو الغلو)، هذا الضمير يسمى ضمير الفصل، وهومن أدوات التوكيد، والغلو: خبر لأن ضمير الفصل على القول الراجح ليس له محل من الإعراب. وقول الله عز وجل: والغلو: هومجاوزة الحد في الثناء مدحًا أو قدحًا. والقدح: يسمى ثناء، ومنه الجنازة التي مرت فأثنوا عليها شرًا [البخاري: كتاب الجنائز/باب ثناء الناس على الميت، ومسلم: كتاب الجنائز/باب فيمن يثنى عليه خير أوشر.]. والغلو هنا: مجاوزة الحد في الثناء مدحًا. قوله: (الصالحين)، الصالح: هوالذي قام بحق الله وحق العباد، وفي هذه الترجمة إضافة الشيء إلى سببه بدون أن ينسب إلى الله بقوله: (أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين)، وهذا جائز إذا كان السبب حقيقة وصحيحًا، وذلك إذا كان السبب قد ثبت من قبل الشرع أو الحس أو الواقع. وقد قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ]؛ يعني: عمه أبا طالب. * * * قوله: (وقول الله ـ عز وجل ـ)، يعني: وباب قول الله ـ عز وجل ـ. قوله: قوله: واليهود غلوا فيه قدحًا، وقالوا: إن أمه زانية، وإنه ولد زنا، قاتلهم الله؛ فكل من الطرفين غلا في دينه وتجاوز الحد بين إفراط أوتفريط. قوله: قوله: (إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله)، هذه صيغة حصر، وطريقه (إنما)؛ فيكون المعنى: ما المسيح عيسى بن مريم إلا رسول الله، وأضافه إلى أمه ليقطع قول النصارى الذي يضيفونه إلى الله. وفي قوله: (رسول الله) إبطال لقول اليهود: إنه كذاب، ولقول النصارى: إنه إله. وفي قوله: (وكلمته) إبطال لقول اليهود: إنه ابن زنا. قوله: (وروح منه)، أي: إنه عز وجل جعل عيسى عليه الصلاة والسلام كغيره من بني آدم من جسد وروح، وأضاف روحه إليه تشريفًا وتكريمًا؛ كما في قوله تعالى في آدم: قوله: قوله: قوله: يكن خيرًا لكم. قوله: * · (تنبيه): لم يشر المؤلف رحمه الله تعالى إلى إكمال الآية، ونرجوأن يكون في إكمالنا لها فائدة. قوله: والشاهد من هذه الآية قوله؛ 1- أنه تنزيل للمغلو فيه فوق منزلته إن كان مدحًا، وتحتها إن كان قدحًا. 2- أنه يؤدي إلى عبادة هذا المغلو فيه كما هو الواقع من أهل الغلو. 3- أنه يصد عن تعظيم الله ـ سبحانه وتعالى ـ لأن النفس إما أن تنشغل بالباطل أو بالحق، فإذا انشغلت بالغلو بهذا المخلوق وإطرائه وتعظيمه؛ تعلقت به ونسيت ما يجب لله تعالى من حقوق. 4- أن المغلو فيه إن كان موجودًا؛ فإنه يزهو بنفسه، ويتعاظم ويعجب بها، وهذه مفسدة تفسد المغلو فيه إن كانت مدحًا، وتوجب العداوة والبغضاء وقيام الحروب والبلاء بين هذا وهذا وإن كانت قدحًا. قوله: (في دينكم)، الدين يطلق على العمل والجزاء، والمراد به هنا: العمل. وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: والمعنى: لا تجعلوا عبادتكم غلوًا في المخلوقين وغيرهم. وهل يدخل في هذا الغلو في العبادات؟ الجواب: نعم، يدخل الغلوفي العبادات، مثل أن يرهق الإنسان نفسه بالعبادة ويتعبها؛ فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن ذلك [البخاري: كتاب التهجد/باب ما يكره من التشديد في العبادة، ومسلم: كتاب صلاة المسافر/باب أمر من نعس في صلاته....]، ومثل أن يزيد عن المشروع، كأن يرمي بجمرات كبيرة، أو يأتي بأذكار زائدة عن المشروع أدبار الصلوات تكميلًا للوارد أو غير هذا؛ فالنهي عن الغلو في الدين يعم الغلو من كل وجه. * * * قوله: (وفي (الصحيح))، أي: في (صحيح البخاري)، وهذا الأثر اختصره المصنف، وقد سبق الكلام على مثل هذه العبارة في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله. قوله: (وقالوا)، أي: قال بعضهم لبعض. قوله: (لا تذرن)، أي: لا تدعن وتتركن، وهذا نهي مؤكد بالنون. قوله: (آلهتكم)، هل المراد: لا تذروا عبادتها أوتمكنوا أحدًا من إهانتها؟ قال: (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا؛ أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، ونسي العلم؛ عبدت) [البخاري: كتاب التفسير/باب ]. الجواب: المعنيان؛ أي: انتصروا لآلهتكم، ولا تمكنوا أحدًا من إهانتها، ولا تدعوها للناس، ولا تدعوا عبادتها أيضًا، بل احرصوا عليها، وهذا من التواصي بالباطل عكس الذين آمنوا وعملوا الصالحات يتواصون بالحق. قوله: {ولا سواعًا}، لا: زائدة للتوكيد، مثلها في قوله تعالى: {ولا الضالين} [الفاتحة:7]، وفائدتها أنهم جعلوا مدخولها كالمستقل، بخلاف يعوق ونسر؛ فهما دون مرتبة من سبقهما. قوله تعالى: والآلهة: جمع إله، وهو كل ما عبد، سواء بحق أو بباطل، لكن إذا كان المعبود هو الله؛ فهوحق، وإن كان غير الله؛ فهو باطل. قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: في هذا التفسير إشكال، حيث قال: (1) ويحتمل ـ وهو بعيد ـ أن هذا في أول رسالة نوح، وأنه استجاب له هؤلاء الرجال وآمنوا به، ثم بعد ذلك ماتوا قبل نوح ثم عبدوهم، لكن هذا بعيد حتى من سياق الأثر عن ابن عباس. فالمهم أن تفسير الآية أن يقال: هذه أصنام في قوم نوح كانوا رجالًا صالحين، فطال على قومهم الأمد، فعبدوهم. قوله: (أوحى الشيطان)، أي: وحي وسوسة، وليس وحي إلهام. قوله: (أن انصبوا إلى مجالسهم)، الأنصاب: جمع نصب، وهوكل ما ينصب من عصا أوحجر أو غيره. قوله: (وسموها بأسمائهم)، أي: ضعوا أنصابًا في مجالسهم، وقولوا: هذا ود، وهذا سواع، وهذا يغوث، وهذا يعوق، وهذا نسر؛ لأجل إذا رأيتوهم تتذكروا عبادتهم فتنشطوا عليها، هكذا زين لهم الشيطان، وهذا غرور ووسوسة من الشيطان كما قال لأدم: وإذا كان العبد لا يتذكر عبادة الله إلا برؤية أشباح هؤلاء؛ فهذه عبادة قال ابن القيم: (2) قاصرة أو معدومة. قوله: (ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم؛ عبدت من دون الله)، ذكر ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون، والقرن مئة سنة، حتى إذا طال عليهم الأمد حصل النزاع والتفرق، فبعث الله النبيين؛ كما قال تعالى: هذا هو تفسير ابن عباس رضي الله عنهما للآية، وهل تفسيره حجة؟ الجواب: يرجع في التفسير أولًا إلى القرآن؛ فالقرآن يفسر بعضه بعضًا، مثل قوله تعالى: قوله: (الأمد)، الزمن. وهذا كتفسير ابن عباس؛ إلا أن ابن عباس يقول: (3) وعن عمر؛ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: والشاهد قوله: * * * قوله: (لا تطروني)، الإطراء: المبالغة في المدح. وهذا النهي يحتمل أنه منصب على هذا التشبيه، وهوقوله: أي: دع ما قاله النصارى أن عيسى عليه الصلاة والسلام ابن الله أو ثالث ثلاثة، والباقي املأ فمك في مدحه ولو بما لا يرضيه. ويحتمل أن النهي عام؛ فيشمل ما يشابه غلوالنصارى في عيسى بن مريم وما دونه، ويكون قوله: قوله: (إنما أنا عبد)، أي: ليس لي حق من الربوبية، ولا مما يختص به الله ـ عز وجل ـ أبدا. قوله: أي: أنت إذا أردت أن تكلمني قل: يا عبد فلانة؛ لأنه أشرف أسمائي وأبلغ في الذل. فمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ عبد لا يعبد، ورسول لا يكذب، ولهذا نقول في صلاتنا عندما نسلم عليه ونشهد له بالرسالة: وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ فهذا أفضل وصف اختاره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لنفسه. واعلم أن الحقوق ثلاثة أقسام، وهي: الأول: حق لله لا يشرك فيه غيره: لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وهوما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات. الثاني: حق خاص للرسل، وهوإعانتهم وتوقيرهم وتبجيلهم بما يستحقون. الثالث: حق مشترك، وهوالإيمان بالله ورسله، وهذه الحقوق موجودة في الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: والذين يغلون في الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجعلون حق الله له؛ فيقولون: (وتسبحوه)؛ أي: الرسول، فيسبحون الرسول كما يسبحون الله، ولا شك أنه شرك؛ لأن التسبيح من حقوق الله الخاصة به، بخلاف الإيمان؛ فهومن الحقوق المشتركة بين الله ورسوله. ونهى عن الإطراء في قوله عليه الصلاة والسلام: ويقول بعض المغالين: الكعبة أفضل من الحجرة، فأما والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها؛ فلا والله، ولا الكعبة، ولا العرش وحملته، ولا الجنة. فهو يريد أن يفضل الحجرة على الكعبة وعلى العرش وحملته وعلى الجنة، وهذه مبالغة لا يرضاها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لنا ولا لنفسه. وصحيح أن جسده ـ صلى الله عليه وسلم ـ أفضل، ولكن كونه يقول: إن الحجرة أفضل من الكعبة والعرش والجنة؛ لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها هذا خطأ عظيم، نسأل الله السلامة من ذلك. قوله: (إياكم)، للتحذير. وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: قوله: (والغلو)، معطوف على إياكم، وقد اضطرابا كثيرا، وأقرب ما قيل للصواب وأقله تكلفا: أن إيا منصوبة بفعل أمر مقدر تقديره إياك أحذر؛ أي: احذر نفسك أن تغرك، والغلومعطوف على إياك؛ أي: واحذر الغلو. والغلو كما سبق: هومجاوزة الحد مدحا أوذما، وقد يشمل ما هوأكثر من ذلك أيضا؛ فيقال: مجاوزة الحد في الثناء وفي التعبد وفي العمل؛ لأن هذا الحديث ورد في رمي الجمرات، حيث روى ابن عباس؛ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ غداة العقبة وهوعلى ناقته: (القط لي حصى. فلقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف؛ فجعل ينفضهن في كفه، ويقول: أمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من قبلكم الغلو في الدين). هذا لفظ ابن ماجة. والغلو: فاعل أهلك. قوله: (من كان قبلكم)، مفعول مقدم. قوله: (فإنما)، أداة حصر، والحصر: إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه. قوله: (أهلك)، يحتمل معنيين: الأول: أن المراد هلاك الدين، وعليه يكون الهلاك واقعا مباشرة من الغلو؛ لأن مجرد الغلو هلاك. الثاني: أنه هلاك الأجسام وعليه يكون الغلو سببا للهلاك؛ أي: إذا غلوا خرجوا عن طاعة الله فأهلكهم الله. وهل الحصر في قوله: الجواب: إن قيل: إنه حقيقي؛ حصل إشكال، وهوأن هناك أحاديث أضاف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الهلاك فيها إلى أعمال غير الغلو، مثل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: وإن قيل: إن الحصر إضافي؛ أي: باعتبار عمل معين؛ فإنه لا يحصل تناقص بحيث يحمل كل منهما على جهة لا تعارض الحديث الآخر لئلا يكون في حديثه ـ صلى الله عليه وسلم ـ تناقض، وحينئذ يكون إضافيًا، فيقال: أهلك من كان قبلكم الغلوهذا الحصر باعتبار الغلو في التعبد في الحديث الأول، وفي الآخر يقال: أهلك من كان قبلكم باعتبار الحكم، فيهلك الناس إذا أقاموا الحد على الضعيف دون الشريف. وفي هذا الحديث يحذر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمته من الغلو، ويبرهن على أن الغلوسبب للهلاك لأنه مخالف للشرع ولإهلاكه للأمم السابقة؛ فيستفاد منه تحريم الغلومن وجهين: الوجه الأول: تحذيره ـ صلى الله عليه وسلم ـ والتحذير نهي وزيادة. الوجه الثاني: أنه سبب لإهلاك الأمم كما من قبلنا، وما كان سببا للهلاك كان محرما. * · أقسام الناس في العبادة: والناس في العبادة طرفان ووسط؛ فمنهم المفرط، ومنهم المفرط، ومنهم المتوسط. فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وكون الإنسان معتدلا لا يميل إلى هذا ولا إلى هذا هذا هو الواجب؛ فلا يجوز التشدد في الدين والمبالغة، ولا التهاون وعدم المبالاة، بل كن وسطا بين هذا وهذا. والغلوله أقسام كثيرة؛ منها: الغلوفي العقيدة، ومنها: الغلوفي العبادة، ومنها: الغلوفي المعاملة، ومنها: الغلوفي العادات. والأمثلة عليها كما يلي: أما الغلوفي العقيدة؛ فمثل ما تشدق فيه أهل الكلام بالنسبة لإثبات الصفات، فإن أهل الكلام تشدقوا وتعمقوا حتى وصلوا إلى الهلاك قطعا، حتى أدى بهم هذا التعمق إلى واحد من أمرين: إما التمثيل، أوالتعطيل. إما أنهم مثلوا الله بخلقه، فقالوا: هذا معنى إثبات الصفات، فغلوا في الإثبات حتى أثبتوا ما نفي الله عن نفسه، أوعطلوه وقالوا: هذا معنى تنزيهه عن مشابهة المخلوقات، وزعموا أن إثبات الصفات تشبيه؛ فنفوا ما أثبته الله لنفسه. لكن الأمة الوسط اقتصدت في ذلك؛ فلم تتعمق في الإثبات ولا في النفي والتنزيه؛ فأخذوا بظواهر اللفظ، وقالوا: ليس لنا أن نزيد على ذلك؛ فلم يهلكوا، بل كانوا على الصراط المستقيم، ولما دخل هؤلاء الفرس والروم وغيرهم في الدين؛ صاروا يتعمقون في هذه الأمور ويجادلون مجادلات ومناظرات لا تنتهي أبدا؛ حتى ضاعوا، نسأل الله السلامة. وكل الإيرادات التي أوردها المتأخرون من هذه الأمة على النصوص، لم يوردها الصحابة الذين هم الأمة الوسط. أما الغلو في العبادات؛ فهو التشدد فيها، بحيث يرى أن الإخلاص بشيء منها كفر وخروج عن الإسلام؛ كغلو الخوارج والمعتزلة، حيث قالوا: إن من فعل كبيرة من الكبائر؛ فهوخارج عن الإسلام وحل دمه وماله، وأباحوا الخروج على الأئمة وسفك الدماء، وكذا المعتزلة، حيث قالوا: من فعل كبيرة؛ فهو بمنزلة بين المنزلتين: الإيمان والكفر؛ فهذا تشدد أدى إلى الهلاك، وهذا التشدد قابله تساهل المرجئة، فقالوا: إن القتل والزنا والسرقة وشرب الخمر ونحوها من الكبائر، لا تخرج من الإيمان، ولا تنقص من الإيمان شيئا، وإنه يكفي في الإيمان الإقرار، وإن إيمان فاعل الكبيرة كإيمان جبريل ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه لا يختلف الناس في الإيمان حتى إنهم ليقولون: إن إبليس مؤمن لأنه مقر، وإذا قيل: إن الله كفره؛ قالوا: إذن إقراره ليس بصادق، بل هو كاذب. هؤلاء في الحقيقة يصلحون لكثير من الناس في هذا الزمان، ولاشك أن هذا تطرف بالتساهل، والأول تطرف بالتشدد، ومذهب أهل السنة أن الإيمان يزيد وينقص، وفاعل المعصية ناقص الإيمان بقدر معصيته، ولا يخرج من الإيمان إلا بما برهنت النصوص على أنه كفر. وأما الغلو في المعاملات؛ فهو التشدد في الأمور بتحريم كل شيء حتى ولو كان وسيلة، وأنه لا يجوز للإنسان أن يزيد عن واجبات حياته الضرورية، وهذا مسلك سلكه الصوفية، حيث قالوا: من اشتغل بالدنيا؛ فهو غير مريد للآخرة، وقالوا: لا يجوز أن تشتري ما زاد على حاجتك الضرورية، وما أشبه ذلك. وقابل هذا التشدد تساهل من قال: يحل كل شيء ينمي المال ويقوي الاقتصاد؛ حتى الربا والغش وغير ذلك. فهؤلاء ـ والعياذ بالله ـ متطرفون بالتساهل؛ فتجده يكذب في ثمنها وفي وصفها وفي كل شيء لأجل أن يكسب فلسا أو فلسين، وهذا لا شك أنه تطرف. والتوسط أن يقال: تحل المعاملات وفق ما جاءت به النصوص، وأما الغلو في العادات؛ فإذا كانت هذه العادة يخشى أن الإنسان إذا تحول عنها انتقل من التحول في العادة إلى التحول في العبادة؛ فهذا لا حرج أن الإنسان يتمسك بها، ولا يتحول إلى عادة جديدة، أما إذا كان الغلو في العادة يمنعك من التحول إلى عادة جديدة مفيدة أفيد من الأولى؛ فهذا من الغلوالمنهي عنه، فلوأن أحدا تمسك بعادته في أمر حدث من عادته التي هوعليها نقول: هذا في الحقيقة غال ومفرط في هذه العادة. وأما إن كانت العادات متساوية المصالح، لكنه يخشى أن ينتقل الناس من هذه العادة إلى التوسع في العادات التي قد تخل بالشرف أوالدين؛ فلا يتحول إلى العادة الجديدة. * * * ولمسلم عن ابن مسعود؛ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: قوله: (المتنطعون)، المتنطع: هوالمتعمق المتقعر المتشدق، سواء كان في الكلام أوفي الأفعال؛ فهوهالك، حتى ولو كان ذلك في الأقوال المعتادة؛ فبعض الناس يكون بهذه الحال، حتى إنه ربما يقترن بتعمقه وتنطعه الإعجاب بالنفس في الغالب، وربما يقترن به الكبر، فتجده إذا تكلم يتكلم بأنفه، فتسلم عليه فتسمع الرد من الأنف إلى غير ذلك من الأقوال. والتنطع بالأفعال كذلك أيضا قد يؤدي إلى الإعجاب أوإلى الكبر، ولهذا قال: (هلك المتنطعون). والتنطع أيضا في المسائل الدينية يشبه الغلوفيها؛ فهوأيضا من أسباب الهلاك، ومن ذلك ما يفعله بعض الناس من التنطع في صفات الله تعالى والتقعر فيها، حيث يسألونه عما لم يسأل عنه الصحابة رضي الله عنهم، وهم يعلمون أن الصحابة خير منهم وأشد حرصا على العلم، وفيهم رسول الله الذي عنده من الإجابة على الأسئلة ما ليس عند غيره من الناس مهما بلغ علمهم. فهذه الأحاديث الثلاثة كلها تدل على تحريم الغلو، وأنه سبب للهلاك، وأن الواجب أن يسير العبد إلى الله بين طرفي نقيض بالدين الوسط، فكما أن هذه الأمة هي الوسط ودينها هوالوسط؛ فينبغي أن يكون سيرها في دينها على الطريق الوسط. * * *
|