الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الرسالة **
*2* قال الشافعي: قال - الله جل ثناؤه - لنبيه: { وقال: وقال: فأعْلَمَ اللهُ رسولَه منَّه عليه بما سبق في علمه، من عِصْمته إيَّاه من خلقه، فقال: { وشهد له - جل ثناؤه - باستمساكه بما أمره به، والهدى في نفسه، وهدايةِ مَنْ اتبعه، فقال: فأبان الله أنْ قدْ فرَضَ على نبيه اتباعَ أمره، وشهِدَ له بالبلاغ عنه، وشهد به لنفسه، ونحن نَشْهَدُ له به، تَقَرُّبًا إلى الله بالإيمان به، وتوَسُّلاً إليه بِتَصْديق كَلِمَاتِه. أخبرنا عبد العزيز عن عمرو بن أبي عمرو مَوْلى المُطَّلِب عن المطلب بن حَنْطَبٍ أنَّ رسول الله قال: ( مَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا أمَرَكُمْ اللهُ بِهِ إِلاَّ وَقَدْ أمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلاَ تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا نَهَاكُمْ اللهُ عَنْهُ إلاَّ وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ)[ مسند الشافعي: 673] قال الشافعي: وما أعلمنا الله مما سبق في علمه، وحتْمِ قضائه الذي لا يُرَدُّ، من فضله عليه ونعمته: أنه منعه من أنْ يَهُمُّوا به أن يُضلُّوه، وأعلمه أنهم لا يضرونه من شيء. وفي شهادته له بأنه يهدي إلى صراط مستقيم، صراط الله، والشهادة بتَأدية رسالته، واتباع أمره، وفيما وصفتُ من فرضه طاعتَه، وتأكيدِه إياها في الآي ذكرتُ: ما أقام الله به الحجة على خلقه، بالتسليم لحكم رسول الله واتباع أمره. قال الشافعي: وما سَنَّ رسول الله فيما ليس لله فيه حكمٌ، فبِحُكْم الله سنَّه. وكذلك أخبرنا الله في قوله: { وكل ما سن فقد ألزمنا الله اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته، وفي العُنُود عن اتباعها معصيتَه التي لم يعذر بها خَلْقاً، ولم يجعل له من اتباع سنن رسول الله مَخْرجاً، لما وصفتُ، وما قال رسول الله. أخبرنا سفيان عن سالم أبو النضْر مولى عُمَر بن عبيد الله سمع عبيد الله بن أبي رافع يحدِّثُ عن أبيه، أنَّ رسول الله قال: ( لاَ أُلْفِيَنَّ أحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أرِيكَتِهِ، يَأْتِيهِ الأُمْرُ مِنْ أمْرِي، مِمَّا أَمَرْتُ به، أَوْ نَهَيْتُ عنه، فيقولُ: لاَ أَدْرِي، ماَ وَجَدْنَا فِي كِتَاِب اللهِ اتَّبَعْناَهُ)[ الترمذي: كتاب العلم/2587؛ أبو داود: كتاب السنة/3989؛ ابن ماجه: المقدمة/13] قال سفيان: وحَدَّثَنِيه محمد بن المُنْكَدِر عن النبي مُرْسلاً. قال الشافعي: الأريكة: السرير. وسُنَنُ رسول الله مع كتاب الله وجهان: أحَدُهما: نص كتاب، فَاتَّبَعَه رسول الله كما أنزل الله، والآخر: جملة، بَيَّنَ رسول الله فيه عن الله معنى ما أراد بالجملة، وأوضح كيف فرَضَها عامَّاً أو خاصاً، وكيف أراد أن يأتي به العباد، وكلاهما اتبع فيه كتاب الله. قال: فلم أعلم من أهل العلم مخالفاً في أن سُنن النبي من ثلاثة وجوه، فاجتمعوا منها على وجهين. والوجهان يجْتَمِعان ويتفرَّعان: أحدهما: ما أنزل الله فيه نص كتاب، فبَيَّنَ رسول الله مثلَ ما نصَّ الكتاب، والآخر: مما أنزل الله فيه جملةَ كتاب، فبيَّن عن الله معنى ما أراد؛ وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما. والوجه الثالث: ما سنَّ رسول الله فيما ليس فيه نص كتاب. فمنهم من قال: جعل الله له، بما افترض من طاعته، وسبق في علمه من توفيقه لرضاه، أن يَسُنَّ فيما ليس فيه نص كتاب. ومنهم من قال: لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب، كما كانت سُنَّته لتبيين عدد الصلاة وعملها، على أصل جملة فرض الصلاة، وكذلك ما سنَّ من البُيُوع وغيرها من الشرائع، لأن الله قال: ومنهم من قال: بل جاءته به رسالةُ الله، فأثبتتْ سنَّتَه. ومنهم من قال: أُلْقِيَ في رُوعه كلُّ ما سَنَّ، وسنَّتُه الحكمةُ: الذي أُلقي في رُوعه عن الله، فكان ما ألقي في روعه سنتَه. أخبرنا عبد العزيز عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب قال: قال رسول الله: ( إنَّ الرُّوحَ الأمِيَن قَدْ ألْقَى فِي رُوعِي أنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزُْقَهَا، فَأجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ)[ ابن ماجه: كتاب الجارات/2135؛ مسند الشافعي: 674]. فكان مما ألقَى في روعه سنَّتَه[ هكذا ضُبطت في الأصل وهو صحيح ويتوجه على أن (من) زائدة - وإنْ في الإثبات على مذهب من يجيز ذلك - و(ما) اسم كان و(سنته) خبرها]، وهي الحكمة التي ذكَرَ اللهُ، وما نَزَل به عليه كتابٌ، فهو كتاب الله، وكلٌّ جاءه من نِعَمِ الله، كما أراد الله، وكما جاءته النِّعَم، تَجْمعها النعمة، وتَتَفَرَّقُ بأنها في أمورٍ بعضُها غيرُ بعض، ونسأل الله العصمة والتوفيق. وأيُّ هذا كان، فقد بيَّن الله أنه فرَضَ فيه طاعة رسوله، ولم يجعل لأحد من خلقه عذراً بخلاف أمرٍ عرَفَه من أمر رسول الله، وأنْ قد جعل الله بالناس الحاجةَ إليه في دينهم، وأقام عليهم حجتَه بما دلَّهم عليه من سنن رسول الله مَعَاني ما أراد الله بفرائضه في كتابه، ليعلم مَن عرَف منها ما وصَفْنا أن سنته - صلى الله عليه - إذا كانت سنة مبيِّنة عن الله معنى ما أراد من مَفْروضه فيما فيه كتابٌ يتْلونَه، وفيما ليس فيه نصُّ كتاب أخْرَى [ أي سنة أخرى،] فهي كذلك أيْنَ كانت، لا يختلف حكمُ الله ثم حكمُ رسوله، بل هو لازم بكلِّ حال. وكذلك قال رسول الله في حديث أبي رافع الذي كتبنا قبْل هذا. وسأذكر مما وصفنا من السنة مع كتاب الله، والسنةِ فيما ليس فيه نص كتاب، بعضَ ما يدل على جملة ما وصفنا منه، إن شاء الله. فأوَّل ما نبدأ به من ذِكْر سنة رسول الله مع كتاب الله: ذِكرُ الاستدلال بسنته على الناسِخ والمَنْسوخ من كتاب الله، ثم ذِكر الفرائض المَنْصوصة التي سن رسول الله معها، ثم ذكر الفرائض الجُمَل التي أبان رسول الله عن الله كيف هي ومواقيتَها، ثم ذكر العام من أمر الله الذي أراد به العام، والعامَّ الذي أراد به الخاصَّ، ثم ذِكرُ سنته فيما ليس فيه نص كتاب. *2* قال الشافعي: : إنَّ الله خلَق الخلْق لِما سَبَق في علمه مما أراد بخلقهم وبهم، لا مُعَقِّبَ لحُكْمه، وهو سريع الحِساب. وأنزل عليهم الكتاب تِبْياناً لكل شيء، وهُدًى ورحمةً، وفرض فيه فرائض أثبتها، وأُخْرَى نسَخَها، رحمةً لِخَلْقه، بالتخفيف عنهم، وبالتوسعة عليهم، زيادة فيما ابتدأهم به مِن نِعَمه. وأثابَهم على الانتهاء إلى ما أثبت عليهم: جَنَّتَه، والنجاة من عذابه؛ فعَمَّتْهم رحمتُه فيما أثبت ونسخ، فله الحمد على نعمه. وأبان الله لهم أنه إنما نسخ ما نسخ من الكتاب بالكتاب، وأن السنةَ لا ناسخةٌ للكتاب، وإنما هي تَبَع للكتاب، يُمَثِّلُ ما نَزل نصاً، ومفسِّرةٌ معنى ما أنزل الله منه جُمَلاً. فأخبر الله أنه فرَضَ على نبيه اتباعَ ما يوحَى إليه، ولم يجعل له تبديله مِن تِلْقاء نفسه. وفي قوله: وكذلك قال: وقد قال بعضُ أهل العلم: في هذه الآية - والله أعلم - دِلاَلة على أن الله جعَل لرسوله أنْ يقولَ مِن تِلقاء نفسه بتوفيقه فيما لم يُنْزِلْ فيه كتاباً، والله أعلم. وقيل في قوله: وفي كتاب الله دِلالة عليه، قال الله: فأخبر الله أنَّ نسْخَ القُرَآن، وتأخيرَ إنْزالِه لا يكون إلا بِقُرَآن مثلِه. وقال: وهكذا سنة رسول الله، لا يَنْسَخُها إلا سنةٌ لرسول الله؛ ولو أحدث الله لرسوله في أمر سنَّ فيه، غيَر ما سنَّ رسول الله: لَسَنَّ فيما أحدث الله إليه، حتى يُبَيِّنَ للناس أن له سنةً ناسخةَ لِلَّتي قّبْلَها مما يخالفها. وهذا مذكور في سنته - صلى الله عليه وسلم -. فإن قال قائل: فقد وجدنا الدِّلالة على أنَّ القُرَآن يَنْسخ القُرَآن، لأنه لا مثلَ للقرآن، فأوْجِدْنا ذلك في السنة؟ قال الشافعي: فيما وصفتُ مِن فرْضِ الله على الناس اتباع أمر رسول الله: دليلٌ على أن سنة رسول الله إنما قُبِلَتْ عن الله، فَمَنْ اتبعها فبِكتاب الله تَبِعَها، ولا نجد خبراً ألزمه الله خلْقَه نصاً بَيِّناً إلا كتابَه ثم سنةَ نبيه. فإذا كانت السنة كما وصفتُ، لا شِبْهَ لها مِنْ قول خَلْقٍ من خلق الله: لَمْ يَجُزْ أن ينسخها إلا مثلُها، ولا مثل لها غيرُ سنة رسول الله، لأن الله لم يجعل لآدمي بعده ما جعل له، بل فرَض على خلقه اتباعَه، فألزمهم أمره، فالخلْق كلهم له تبعٌ، ولا يكون للتابع أن يخالف ما فُرِضَ عليه اتباعُه، ومن وجب عليه اتباع سنة رسول الله لم يكن له خلافُها، ولم يقُمْ مَقامَ أنْ ينسخ شيئاً منها. فإن قال: أفيَحْتَمِلُ أنْ تكون له سنة مأثورة قد نُسِخَتْ، ولا تُؤْثَرُ السنة التي نَسَخَتْها؟ فلا يحتمل هذا، وكيف يَحْتَمِلُ أنْ يُؤثر ما وُضِع فرضُه، ويُتْرَكَ ما يَلْزَم فرضُه؟! ولو جاز هذا خرجتْ عامةُ السنن من أيدي الناس، بِأنْ يقولوا: لَعَّلها مَنْسوخَة، وليس يُنْسَخُ فرضٌ أبداً إلا أُثْبِتَ مكانَه فرضٌ. كما نُسختْ قِبْلة بيْت المَقْدِس، فأُثْبِتَ مكانَها الكعبةُ، وكلُّ منسوخ في كتاب وسنة هكذا. فإن قال قائل: هل تُنْسَخ السنةُ بالقُرَآن؟ قيل: لو نُسخَت السنة بالقُرَآن، كانت للنبي فيه سنةٌ تُبَيِّنُ أنَّ سنته الأولى منسوخة بسُنته الآخِرة حتى تقوم الحجةُ على الناس، بأنَّ الشيء يُنْسَخ بِمِثْله. فإنْ قال: ما الدليل على ما تقول؟ فما وصَفْتُ مِنْ مَوْضعه من الإبانة عن الله معنى ما أراد بفرائضه، خاصاً وعاماً، مما وصفت في كتابي هذا، وأنه لا يقول أبداً لِشيء إلا بحُكْم الله. ولو نسخ الله مما قال حكْماً، لَسنَّ رسول الله فيما نسخه سنة. ولو جاز أن يقال: قد سنَّ رسول الله ثم نسخ سنتَه بالقُرَآن، ولا يُؤْثَرُ عن رسول الله السنةُ الناسخةُ: جاز أن يقال فيما حرم رسول الله من البُيوع كلِّها: قد يحتمل أن يكون حرَّمَها قبل أن يُنزل عليه: وكتابُ الله وسنةُ رسوله تدل على خلاف هذا القول، وموافِقةٌ ما قلنا. وكتاب الله البيانُ الذي يُشْفى [ في النسخة المعتمدة بالياء والنون.] به من العَمى، وفيه الدلالة على موضع رسول الله من كتاب الله ودينه، واتباعِه له وقيامه بتَبْيِينِه عن الله. *2* قال الشافعي: مما نَقَل بعضُ مَن سمعتُ مِنه مِن أهل العلم، أن الله أنزل فَرْضاً في الصلاة قبل فرض الصلوات الخمس، فقال: { ولما ذكر الله بعد أمْره بقيام الليل نصْفِه إلا قليلاً، أو لزيادة عليه، فقال: قال الشافعي: فكان بيِّناً في كتاب الله نسخُ قيام الليل ونصفِه والنقصانِ من النصف، والزيادة عليه بقول الله: { فاحتمل قول الله: { - أحدهما: أن يكون فرضاً ثابتاً، لأنه أزِيل به فرض غيره. - والآخر: أن يكون فرضاً منسوخاً أزيل بغيره، كما أُزيل به غيره، وذلك لقول الله: قال: فكان الواجب طلبَ الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين، فوجدنا سنة رسول الله تدل على ألاَّ واجب من الصلاة إلا الخَمسُ، فصِرنا إلى أن الواجب الخمسُ، وأن ما سواها من واجب مِن صلاة قبلَها، منسوخ بها، استدلالاً بقول الله: ولَسْنَا نُحِبُّ لأحد تركَ أن يتهجد بما يسره الله عليه من كتابه، مُصَلِّيًا به، وكيف ما أكْثَرَ فهو أحبُّ إلينا. أخبرنا مالك عن عمه أبي سُهَيْل بن مالك عن أبيه، أنه سمع طلحة بن عبيد الله يقول: (جَاءَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرَ الرَّأسِ، نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ، وَلاَ نَفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنْ الإسْلَامِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَة، قاَلَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ فَقَالَ: لاَ، إلاَّ أنْ تَطَّوَّعَ. قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولَ اللهِ صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَان، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غّيْرُهُ؟ قَالَ: لاَ، إلاَّ أنْ تَطَّوَّعَ، فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ، وَهُوَ يَقُولُ: لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا، وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُوُل اللهِ: أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ)[ البخاري: كتاب الإيمان/44؛ مسلم: كتاب الإيمان/12؛ النسائي: كتاب الصلاة/454؛ أبو داود: كتاب الصلاة/331؛ مالك: كتاب النداء إلى الصلاة/382.] ورواه عُبادة بن الصامِت عن النبي، أنَّهُ قال: (خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللهُ عَلَى خَلْقِهِ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا، اْسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ: كَانَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا [هكذا هي النصب وتقدم توجيه نحوها ص 103 غير أن ذاك التوجيه لا يصلح هنا وانظر توجيه الكلام في ص 158] أنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ)[ النسائي: كتاب الصلاة/457؛ أبو داود: كتاب الصلاة/1210؛ ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها/1391؛ أحمد: باقي مسند الأنصار/21635؛ مالك: كتاب النداء إلى الصلاة/248.] *2* قال الله تبارك وتعالى: قال الشافعي: افترض الله الطهارةَ على المُصَلِّي، فِي الوُضوء والغسل مِن الجنَابَة، فلم تكن لغير طاهر صلاةٌ. وَلَمَّا ذكر اللهُ المَحِيضَ، فأمَرَ باعتزال النساء حتى يَطْهُرْنَ، فإذا تَطَهَّرْنَ أُتِينَ: استدلَلْنا على أنَّ تَطَهُّرَهُنَّ بالماء: بعد زوال المحيض، لأن الماء موجود في الحالات كلها في الحَضَر، فلا يكون للحائض طهارة بالماء، لأن الله إنما ذكَرَ التَّطَهُّرَ بعد أنْ يَطْهُرْنَ، وَتَطَهُّرُهُنَّ: زَوالُ المحيض، في كتاب الله ثم سنة رسوله. أخبرنا مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه، عن عائشة، وذَكَرَتْ إحرامَها مع النبي، وأنَّها حاضتْ، فأمَرَها أن تَقْضي ما يقضي الحاجُّ: ( غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي) [البخاري: كتاب الحيض/294؛ مسلم: كتاب الحيض/2115؛ أحمد: مسند باقي الأنصار/25139؛ مالك: كتاب الحج/821.] فاستدللنا على أنَّ الله إنَّمَا أراد بفرض الصلاة مَنْ إذا تَوَضَّأ واغتسل طَهُرَ؛ فأما الحائض، فلا تَطْهر بواحد منهما، وكان الحيض شيئاً خُلِقَ فيها، لم تَجْتَلِبْهُ على نفسها فتكون عاصية به، فزال عنها فرض الصلاة أيام حيضها، فلم يكن عليها قضاءُ ما تركتْ منها في الوقت الذي يزول عنها فيه فرضُها. وقلنا في المُغْمى عليه، والمغلوب على عقله بالعارض من أمر الله، الذي لا جَنابة له فيه، قِياساً على الحائض، إن الصلاة عنه مرفوعة، لأنه لا يعْقِلها، ما دام في الحال التي لا يعقل فيها. وكان عامًّا في أهل العلم أن النبي لم يأمر الحائض بقضاء الصلاة، وعاماً أنها أُمِرَتْ بقضاء الصوم، فَفَرَقْنَا بَيْنَ الفَرْضَيْنِ، استدلالاً بما وصفتُ مِن نقْل أهل العلم وإجماعهم. وكان الصوم مفارقَ الصلاة في أن للمسافر تأخيرَه عن شهر رمضان، وليس له ترك يوم لا يصلي فيه صلاة السَّفر، وكان الصوم شهراً مِن اثني عشر شهراً، وكان في أحدَ عشر شهراً خَلِيًّا مِن فرض الصوم، ولم يكن أحد من الرجال - مطيقاً بالفعل للصلاة - خَلِيًّا من الصلاة. قال الله: فقال بعض أهل العلم: نزلتْ هذه الآية قبْلَ تحريم الخمر [ ثبت ذلك في حديثين عند أبي داود والترمذي والنسائي. ] فدل القُرَآن - والله أعلم - على ألا صلاة لسكرانَ حتى يعلمَ ما يقول، إذْ بدأ بنهيه عن الصلاة، وذكر معه الجُنُبَ، فلم يختلف أهل العلم ألا صلاة لجُنُب حتى يَتَطَهَّرَ. وإن كان نَهْيُ السكران عن الصلاة قبل تحريم الخمر: فهو حين حُرِّم الخمرُ أَوْلى أن يكون منهياً، بأنه عاصٍ من وجهين: أحدهما: أن يُصَلِّيَ في الحال التي هو فيها مَنْهِيٌّ، والآخر: أنْ يَشْرَبَ الخمرَ. والصلاة قول وعمل وإمساكٌ، فإذا لم يَعْقِل القول والعمل والإمساك، فلم يأت بالصلاة كما أُمر، فلا تُجْزئ عنه، وعليه إذا أفاق القضاءُ. ويُفارق المغلوبُ على عقله بأمر الله الذي لا حِيلة له فيه: السكرانَ، لأنه أدخل نفسه في السُّكر، فيكون على السكران القضاء، دون المغلوب على عقله بالعارض الذي لم يَجْتَلِبْه على نفسه فَيَكون عاصياً باجتلابه. وَوَجَّهَ اللهُ رسوله للقبلة في الصلاة إلى بيت المقدس، فكانت القبلةَ التي لا يحلُّ - قبل نسخها - استقبالُ غيرها، ثم نسخ الله قبلة بيت المقدس، ووجَّهَه إلى البَيْت، فلا يحل لأحد استقبال بيت المقدس أبداً لَمَكْتوبةٍ، ولا يحل أن يستقبل غير البيت الحرام. قال: وكلٌّ كان حقًّا في وقته، فكان التوجه إلى بيت المقدس - أيامَ وجَّه اللهُ إليه نبيه - حَقًّا، ثم نَسَخَه، فصار الحقُّ في التوجه إلى البيت الحرام أبداً، لا يحل استقبال غيره في مكتوبة، إلا في بعض الخوْف، أو نافلةٍ في سفرٍ، استدلالاً بالكتاب والسنة. وهكذا كلُّ ما نسخ الله، ومعنى (نَسَخَ) : تَرَكَ فَرْضَه: كان حقًّا في وقته، وترْكُه حقًّا إذا نسخه الله، فيكون من أدرك فرضَه مُطيعاً به وبتركه، ومَن لم يُدْرِك فرضَه مُطيعاً باتِّباع الفرْضِ الناسِخ له. قال الله لنبيه: فإن قال قائل: فأين الدلالة على أنهم حُوِّلوا إلى قِبْلةٍ بعد قبلة؟ ففي قول الله: مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: (بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، إذْ جَاءَهمْ آتٍ، فَقَالَ: إنَّ النَّبِيَّ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرَآن، وَقَدْ أَُمِرَ أنْ يَسْتَقْبِلَ القِبْلَةَ، فَاسْتَقْبَلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إلىَ الشَّامِ، فَاسْتَدَارُوا إلىَ الكَعْبَةِ)[ البخاري: كتاب تفسير القُرَآن/4134؛ النسائي: كتاب القبلة/737.] مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المُسَيِّب أنه كان يقول: (صَلَّى رَسُولُ اللهِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ، ثُمَّ حُوِّلَتْ القِبْلَةُ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ)[البخاري: كتاب تفسير القُرَآن/4132؛ النسائي: كتاب الصلاة/484؛ ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها/1000؛ أحمد: مسند بني هشام/2140؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/412.] قال: والاستدلال بالكتاب في صلاة الخوف قولُ الله: وروى ابن عمر عن رسول الله صلاةَ الخوفِ، فقال في روايته: (فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالاً وَرُكْبَانًا، مُسْتَقْبِلِي القِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبلِيهَا)[البخاري: كتاب تفسير القُرَآن/4171؛ مالك كتاب النداء للصلاة/396.] وصلى رسول الله النافلةَ في السَّفَرِ على راحلته أيْن تَوجَّهتْ به؛ حَفِظَ ذلك عنه جابر ابن عبد الله، وأنس بن مالك وغيرهما، وكان لا يصلي المكتوبة مُسافِراً إلاَّ بالأرض مُتوجِّهاً للقبلة. ابن أبي فُدَيْك عن ابن أبي ذِئْبٍ عن عثمان بن عبد الله بن سُراقة عن جابر بن عبد الله: ( أنَّ النَّبِيَّ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ مُوَجِّهَةً بِهِ قِبَلَ المَشْرِقِ فِي غَزْوَةِ بَنِي أنْمَارٍ)[ مسند الشافعي: 192، 194؛ مسند أبي حنيفة: كتاب المغازي/3909 وروي من طرق عن جابر رواه أحمد والالبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي يألفاظ مختلفة.] قال الله: ثم أبان في كتابه: أنه وضَع عنهم أن يقوم الواحد بقتال العشرة، وأَثْبَتَ عليهم أنْ يقوم الواحد بقتال الاثنين، فقال: أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: ( لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: قال: وهذا كما قال ابن عباس إن شاء الله، وقد بيَّن اللهُ هذا في الآية، وليستْ تَحْتاج إلى تَفْسِيرٍ. ثم نَسَخ الله الحبسَ والأذى في كتابه، فقال: فدلت السنة على أن جلد المِائة للزَّانِيَيْنِ البِكْرَيْن. أخبرنا عبد الوهاب عن يونس بن عُبَيْد عن الحَسَن عن عُبادَة ابن الصامِت، أنَّ رسولَ الله قال: ( خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً، البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ)[ مسلم: كتاب الحدود/1690؛ ابن ماجه: كتاب الحدود/2540؛ أحمد: مسند المكثرين/15345؛ مسند الشافعي: 252.] أخبرنا الثقة من أهل العلم، عن يونس بن عُبَيْد عن الحسن عن حِطَّانَ الرَّقَاشِيِّ عن عُبادة بن الصامت، عن النبي مِثْلَهُ. قال: فدلّتْ سنةُ رسول الله أنَّ جَلْدَ المائة ثابت على البِكْرين الحُرَّيْن، ومنسوخ عن الثَّيِّبَيْنِ، وأن الرجْمَ ثابِت على الثَّيِّبَيْنِ الحُريْن. لأنَّ قولَ رسول الله: (خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً، البِكْرُ باِلبِكْرِ، جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ، جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ)، أوَّلُ ما نَزَلَ، فنُسخ به الحبسُ والأذى عن الزانِيَيْن. فلَمَّا رجَمَ النبي ماعِزاً ولمْ يجْلِده، وأمر أُنَيْسًا أن يَغْدُوَ على امرأة الأسْلَمِي، فإنْ اعترَفَتْ رَجَمَهَا: دلَّ على نَسْخِ الجَلْد عن الزانيين الحُرَّيْن الثَّيِّبَيْنِ، وثبتَ الرجمُ عليهما، لأن كل شيء أبداً بعد أوَّلٍ فهو آخِرٌ. فدل كتاب الله، ثم سنة نبيه، على أن الزانيين المَمْلوكَيْن خارِجان من هذا المعنى. قال الله - تبارك وتعالى - في المَمْلوكات: والنِّصْف لا يكون إلا من الجَلْدِ، الذي يَتَبَعَّضُ، فأما الرَّجْم - الذي هو قتل - فلا نصفَ له، لأن المرجوم قد يموت في أوَّل حَجَرٍ يُرْمى به، فلا يُزاد عليه، ويُرْمى بألفٍ وأكثر فيُزادُ عليه حتى يموت، فلا يكون لهذا نِصف محدود أبداً. والحدود مُوَقَّتة بإتْلاف نفْسٍ، والإتلاف مُوَقَّتٌ بِعَدَدِ ضَرْبٍ أو تحديد قطعٍ، وكل هذا معروف، ولا نصف للرجمِ مَعْروفٌ. وقال رسول الله: ( إذَا زَنَتْ أمَةُ أحَدِكُمْ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا)[ البخاري: كتاب البيوع/2080؛ مسلم: كتاب الحدود/3215؛ أحمد: باقي مسند المكثرين/7088.] ولم يقل: (يَرْجُمْهَا)، ولم يختلف المسلمون في ألاَّ رَجْمَ على مَمْلُوكٍ في الزِّناَ. وإحصانُ الأمة إسلامُها. وإنما قلنا هذا استدلالاً بالسنة وإجماعِ أكْثرِ أهْل العِلْم. ولَمَّا قال رسول الله: ( إذَا زَنَتْ أمَةُ أحَدِكُمْ فَتَبَيًّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا)، ولم يقل: (مُحْصَنَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنَةً)، استدللنا على أنَّ قول الله في الإماء: فإن قال قائل: أراكَ تُوقِع الإحْصان على معاني مختلف؟ قيل: نَعَم، جِماعُ الإحصان أن يكون دون التحصين مانعٌ من تناول المُحَرَّم. فالإسلام مانع، وكذلك الحُرية مانعة، وكذلك الزوجُ والإصابةُ مانع، وكذلك الحبس في البيوت مانع، وكلُّ ما مَنَعَ أَحْصَنَ. قال الله: قال: وآخِرُ الكلام وأوَّلُه يَدُلان على أن معنى الإحصان، المذكورِ عامًّا في موضع دون غيره: أن الإحصان هاهُنَا الإسلامُ، دون النكاح والحرية والتحصينِ بالحبس والعفاف. وهذه الأسماءُ التي يَجْمعها اسم الإحصان.
|