الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والآن وبعد غزو الفضاء عرفنا مسألة ضيق التنفّس في طبقات الجو العليا مما يضطرهم إلى أخذ أنابيب الأكسجين وغيرها من آلات التنفس.{قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)}.وكلمة {أعمى} [طه: 125] جاءت في قوله تعالى: {وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى فَهُوَ فِي الآخرة أعمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء: 72].والمراد بالعَمَى ألاَّ تُدرِكَ المبصَرات، وقد توجد المبصَرات ولا تتجه لها بالرؤية، فكأنك أعمى لا ترى، وكذلك المعرِض عن الآيات الذي لا يتأملها، فهو أعمى لا يراها.لذلك في الآخرة يقول تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء: 97] فساعةَ يُبعَث الكافرون يُفزَّعون بالبعث الذي كانوا ينكرونه ويضطربون اضطرابًا، يحاول كل منهم أن يرى منفذًا وطريقًا للنجاة، ولكن هيهات، فقد سلبهم الله منافذ الإدراك كلها، وسَدَّ في وجوههم كل طرق النجاة، والإنسان يهتدي إلى طريقه بذاته وبعيونه، فإنْ كان أعمى أمكنه أنْ ينادي على مَنْ يأخذ بيده، فإنْ كان أيضًا أبكم، فلربما سمع مَنْ يناديه ويُحذره ويُدِله، فإنْ كان أصمَّ لا يسمع؟إذن: سُدَّتْ أمامه كل وسائل النجاة، فهو أعمى لا يبصر النجاة بذاته، وأبكم لا يستطيع أنْ يستغيث بمَنْ ينقذه، وهو أيضًا أصمّ لا يسمع مَنْ يتطوع بإرشاده أو تحذيره.وقد وجد كثير من المشككين في هذه الآية شيئًا ظاهريًا يطعنون به على أسلوب القرآن، حيث يقول هنا: {قَالَ رَبِّ لِمَ حشرتني أعمى} [طه: 125] وفي موضع آخر يقول: {وَرَأَى المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53] فنفى عنهم الرؤية في آية، وأثبتها لهم في آية أخرى.وفاتَ هؤلاء المتمحِّكين أَن الإنسانَ بعد البعث يمرُّ بمراحل عِدَّة: فساعةَ يُحشرون من قبورهم يكونون عُمْيًا حتى لا يهتدوا إلى طريق النجاة، لكن بعد ذلك يُريهم الله بإيلام آخر ما يتعذبون به من النار.وهذا الذي حآق بهم كِفَاءٌ لما صنعوه، فقد قدَّموا هم العمى والصمم والبكم في الدنيا، فلما دعاهم الرسول إلى الله صَمُّوا آذانهم، واستغشوا ثيابهم.{قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)}.أي: نعاملك كما عاملتنا، فننساك كما نسيت آياتنا.والآيات جمع آية، وهي الأمر العجيب، وتُطلق على الآيات الكونية التي تلفت إلى المكوِّن سبحانه، وتُطلَق على المعجزات التي تؤيد الرسل، وتثبت صِدْق بلاغهم عن الله، وإنْ كانت الآيات الكونية تُلفِت إلى قدرة الخالق عز وجل وحكمته، فالرسول هو الذي يدلُّ الناس على هذه القوة، وعلى صاحب هذه الحكمة والقدرة التي يبحث عنها العقل.أيها المؤمنون هذه القوة هي الله، والله يريد منك كذا وكذا، فإنْ أطعتَه فَلَك من الأجر كذا وكذا، وإنْ عصيتَه فعقابك كذا وكذا، ثم يؤيد الرسول بالمعجزات التي تدلُّ على صِدْقه في البلاغ عن ربه.وتُطلَق الآيات على آيات الكتاب الحاملة للأحكام وللمنهج.وأنت كذَّبْتَ بكل هذه الآيات ولم تلتفت إليها، فلما نسيت آيات الله كان جزاءَك النسيان جزاءً وفَاقًا. والنسيان هنا يعني الترك، وإلا فالنسيان الذي يقابله الذكر مُعْفىً عنه ومعذور صاحبه.أما قوله: {وكذلك اليوم تنسى} [طه: 126] أي تُنسَى في النعيم وفي الجنة، لكنك لا تُنسى في العقاب والجزاء.ثم يقول الحق سبحانه: {وكذلك نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ}.قوله تعالى: {كذلك} [طه: 127] أي: مثل هذا الجزاء {نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} [طه: 127] والإسراف: تجاوز الحدِّ في الأمر الذي له حَدُّ معقول، فالأكْل مثلًا جعله الله لاستبقاء الحياة، فإنْ زاد عن هذا الحدِّ فهو إسراف.دَخْلك الذي يسَّره الله لك يجب أن تنفق منه في حدود، ثم تدَّخر الباقي لترقى به في الحياة، فإنْ أنفقتَه كله فقد أسرفْتَ، ولن تتمكن من أن تُرقِّى نفسك في ترف الحياة.ولذلك يقول الحق سبحانه: {إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين} [الإسراء: 27].وللإسلام نظرته الواعية في الاقتصاديات، فالحق يريد منك أنْ تنفق، ويريد منك ألاَّ تُسرِف وبين هذين الحدَّيْن تسير دَفّة المجتمع، ويدور دولاب الحياة، فإنْ بالغتَ في حَدٍّ منهما تعطلتْ حركة الحياة، وارتبك المجتمع وبارت السلع.وقد أوضح الحق سبحانه هذه النظرة في قوله: {والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].فربُّك يريد منك أنْ تجمع بين الأمرين؛ لأن التقتير والإمساك يُعطِّل حركة الحياة، والإسراف يُجمِّد الحياة ويحرمك من الترقي، والأخذ بأسباب الترف؛ لذلك قال تعالى: {فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} [الإسراء: 29].وقد يكون الإسراف من ناحية أخرى: فربُّك عز وجل خلقك، وخلق لك مُقوِّمات حياتك، وحدَّد لك الحلال والحرام، فإذا حاولتَ أنت أنْ تزيد في جانب الحلال مما حرمه الله عليك، فهذا إسراف منك، وتجاوز للحدِّ الذي حَدَّه لك ربك، وتجاوزتَ فيما أحلَّ لك، وفيما حرَّم عليك.وقد يأتي الإسراف من ناحية أخرى: فالشيء في ذاته قد يكون حلالًا، لكن أنت تأخذه من غير حِلِّة.فإذا نقلنا المسألة إلى التكاليف وجدنا أن الله تعالى أحلَّ أشياء وحرَّم أشياء، فلا تنقل شيئًا مما حُرِّم إلى شيء أحلَّ، ولا شيئًا مما أُحلَّ إلى شيء حُرِّم، كما قال سبحانه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق} [الأعراف: 32].وخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ} [التحريم: 1].إذن: فربّك لا يُضيِّق عليك، وينهاك أنْ تُضيِّق على نفسك وتُحرّم عليها ما أحلَّ لها، كما يلومك على أنْ تُحلِّل ما حرّم عليك لأن ذلك في صالحك.وكما يكون الإسراف في الطعام والشراب وهما من مُقوِّمات استبقاء الحياة، يكون كذلك في استبقاء النوع بالزواج والتناسل، إلى أنْ تقوم الساعة، فجعل الحق سبحانه للممارسة الجنسية حدودًا تضمن النسل والاستمتاع الحلال، فمَنْ تعدَّى هذه الحدود فقد أسرف.ومن رحمته تعالى أنه يغفر لِمنْ أسرف على نفسه شريطةَ أن يكون مؤمنًا: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله} [الزمر: 53].وقوله تعالى: {وكذلك نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} [طه: 127] فأنزل الإسراف منزلةَ تالية لعدم الإيمان؛ لذلك قال بعدها: {وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّه} [طه: 127] لأنه حين ينقل الحلال إلى الحرام، أو الحرام إلى الحلال، فكأنه عطّل آيات الله.ثم يقول تعالى: {وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَدُّ وأبقى} [طه: 127] إذن: فالكلام هنا عن الدنيا، فلا تظن أن الله يُؤخِّر للكافر كُلَّ العذاب، فهناك أشياء تُعجِّل له في الدنيا لا تُؤخِّر.وأول مَا لا يُؤخِّر ويُعجل الله به في الدنيا عقوبة الظلم، فلا يمكن أنْ يموتَ الظالم قبل أن يرى المظلوم ما صنعه الله به، وإلاّ فالذين لا يؤمنون بالقيامة ولا بالجزاء كانوا فجروا في الخَلْق وَعاثُوا في الأرض، فمن حكمة الله أن نرى لكل ظالم مصرعًا حتى تستقيم حركة الحياة، ولو لم يكُنْ الإنسان مؤمنًا.والحق سبحانه حين يريد أنْ يُعذِّب يتناسب تعذيبه مع قدرته تعالى، كما أن ضربة الطفل غير ضربة الشاب القوي. إذن: مَا يناله من عذاب في الحياة هين لأنه من الناس، أمّا عذاب الآخرة فشيء آخر؛ لأنه عذاب من الله يتناسب مع قدرته تعالى.{وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَدُّ وأبقى} [طه: 127] أبْقَى؛ لأن عذاب الدنيا ينتهي بالموت، أو بأن يرضى عنك المعذَّب ويرحمك، وقد يتوسط لك أحد فيزيل عنك العذاب، أمّا في الآخرة فلا شيء من ذلك، ولا مفرَّ من العذاب ولا مَلْجأ. اهـ.
وأخرج هناد وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني والبيهقي، عن ابن مسعود في قوله: {فإن له معيشة ضنكًا} قال: عذاب القبر.وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن ابن مسعود مثله.وأخرج عبد بن حميد والبيهقي عن أبي صالح والربيع مثله.وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن الحسن قال: المعيشة الضنك، خصم.وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {معيشة ضنكًا} قال: يقول: كل مال أعطيته عبدًا من عبادي قلّ أو كثر لا يطيعني فيه فلا خير فيه، وهو الضنك في المعيشة.وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله: {معيشة ضنكًا} قال: ضيقة.وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: {معيشة ضنكًا} قال: الضنك، من المعيشة إذا وسع الله على عبده أن يجعل معيشته من الحرام، فيجعله الله عليه ضيقًا في نار جهنم.وأخرج ابن أبي حاتم عن مالك بن دينار في قوله: {معيشة ضنكًا} قال: يحول الله رزقه في الحرام، فلا يطعمه إلا حرامًا حتى يموت فيعذبه عليه.وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله: {معيشة ضنكًا} قال: العمل السيء والرزق الخبيث.وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: {معيشة ضنكًا} قال: في النار شوك وزقوم وغسلين والضريع، وليس في القبر ولا في الدنيا معيشة، ما المعيشة والحياة إلا في الآخرة.وأخرج البيهقي عن مجاهد {معيشة ضنكًا} ضيقة يضيق عليه قبره.وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {فإن له معيشة ضنكًا} قال: رزقًا {ونحشره يوم القيامة أعمى} قال: عن الحجة {قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرًا} قال: في الدنيا {قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} قال: تترك في النار.وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح في قوله: {ونحشره يوم القيامة أعمى} قال: ليس له حجة.وأخرج هناد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن عكرمة في قوله: {ونحشره يوم القيامة أعمى} قال: عمي عليه كل شيء إلا جهنم. وفي لفظ قال: لا يبصر إلا النار.وأخرج هناد عن مجاهد في قوله: {لم حشرتني أعمى} قال: لا حجة له.وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {أتتك آياتنا فنسيتها} يقول: تركتها أن تعمل بها. {وكذلك اليوم تنسى} قال: في النار. والله أعلم. اهـ.
|