الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء **
ولنرجع إلى بقية أخبار المعز لدين الله أبي تميم معد الفاطمي باني القاهرة فنقول: لما انهزم الحسن بن أحمد القرمطي خرج في شعبان من سنة ثلاث وستين وثلاثمائة الأشراف والقاضي أبو طاهر والفقهاء والشهود ووجوه التجار وكثير من الرعية إلى المعسكر لتهنئة الأمير عبد الله بن المعز بالفتح وكان معسكره بظاهر مشتول فأكرمهم وأضافهم وانصرفوا من الغد. وللنصف من شعبان صرف المعز الحسن بن عبد الله عن الأحباس بمحمد بن أبي طاهر القاضي ومحمد بن إقريطش ضمانا بألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم في كل سنة تدفع إلى المستحقين حقوقهم ويحمل الباقي إلى بيت المال. وطيف بأربين رأساً جيء بها من الصعيد من أصحاب أخي مسلم. وفي أول شهر رمضان دخل الأمير عبد الله بعساكره إلى القاهرة بعد فراغه من قتال القرامطة بالأسارى والرؤوس وهو بمظلته فجلس له أبوه المعز في القبة على باب قصره لينظره فلما عاين الأمير عبد الله مجلس أبيه المعز ترجل وقبل الأرض ونزل أهل العسكر كلهم بنزوله ومشى إلى القصر والناس معه مشاة. وورد الخبر بدخول أبي محمود إلى الرملة بغير قتال وأنه استأمن إليه جماعة من عسكر القرامطة. وفيه قبض المعز على جماعة من السعاة والعيارين الذين يؤذون الناس وسجنهم. ووافى رسول ملك الروم برسالة فاجتمع الناس للنظر إليه وجلس له المعز على السرير الذهب فدخل إليه وقبل الأرض مراراً وأذن له بالجلوس على وسادة وكان علي بن الحسين قاضي أذنة حاضراً فقال: يا أمير المؤمنين صلى الله عليك هذا وأشار إلى الرسول آفة على الإسلام والمؤذي للمسلمين والأسارى. فنظر إليه المعز منكراً عليه وأخرج وتكلم الرسول في الهدنة وأخذ المعز كتابه وأنزل في دار. وفيه أطلق المعز طنجمية وهم عشرة لكل واحد ثمانمائة رباعى ذهباً وزنها مائتي مثقال. ووردت الأخبار بأن القرمطي فر على وجهه وتمزقت عساكره فلم يفلحوا إلى اليوم. وطيف بأسارى من القرامطة على الإبل بالبرانس وعدتهم ألف وثلاثمائة مقدمهم مفلح المنجمي ببرنس كبير على جمل بثوب مشهر مكتوب على ظهره اسمه وما عمل وخلفه جماعة من وجوه القرامطة وبين أيديهم الرؤوس على الحراب وعدتها آلاف وكان يوماً عظيماً واجتماعاً كثيراً فلما فرغوا من التطواف أعتقلوا بالقاهرة. وفيه خرج المعز على فرس وقد اجتمع الناس من الأشراف والقواد والعمال والكتاب والمغاربة فوقفوا بين يديه فقال لهم: قد أنعم الله عز وجل وتفضل وخول ومكن ونريد الحج وزيارة قبر جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهاد فايش يقصر عن هذا إن قلت ليس عندي مال إني لكاذب وإن قلت ليس عندي كراع وسلاح إني لكاذب وإن قلت ليس عندي رجال إني لكاذب وفيه خرج الأمر بقتل الأسارى الذين في الاعتقال فقتلوا عن آخرهم وحفرت لهم أخاديد ودفنوا فلما بلغ المعز ذلك قال: والله ما أمرت بقتلهم ولقد أمرت بإطلاقهم ويدفع لكل منهم ثلاثة دنانير. واغتم لذلك وتصدق وأعتق. وورد الخبر بقتل علي بن أحمد العقيقي من الأشراف وابنه ذا من يح كذا الحسيني وأن البادية قتلهم بالصعيد وكانوا من أصحاب أخي مسلم. وفيه قبض أبو إسماعيل الرسي على ابنه علي بن إبراهيم وأخبر المعز فقال له المعز: يكون عندك محتفظا به وكان أيضاً من أصحاب أخي مسلم الذين ظاهروا مع القرمطي. وبعث أبو محمود بعمال الشام فجاسوا في بستان الإخشيد بالقاهرة. وفي يوم عيد الفطر ركب المعز وصلى بالناس على رسمه وخطب. وفيه ورد الخبر بدخول أبي محمود إبراهيم بن جعفر إلى دمشق وتمكن سلطانه بها وقوته وأنه قبض على جماعة أبي الهيجاء القرمطي وابنه واستأمن إليه جماعة من الإخشيدية والكافورية وأخذ محمد بن أحمد بن سهل النابلسي وسيره مع الجماعة إلى المعز. وكان من خبر أبي محمود إبراهيم بن جعفر أنه سار من الرملة ونزل على أذرعات وقد سار ظالم بن موهوب العقيلي نحو دمشق بمراسلة أبي محمود ليتفقا على أبي الهيجاء القرمطي وكان أبو الهيجاء بن منجا القرمطي بدمشق في نحو الألفي رجل وقد طلب منه الجند مالا فقال: ما معي مال ووافى ظالم بن موهوب العقيلي عقبة دمر فخرج إليه أبو الهيجاء وابنه بمن معه ففر عدة من الجند ولحقوا بظالم مستأمنين إليه فقوى بهم وسار بهم فأحاط بأبي الهيجاء فلم يقدر على الفرار فأخذه وابنه بعد أن وقعت فيه ضربة وانقلب العسكر كله مع ظالم فملك دمشق لعشر خلون من شهر رمضان سنة ثلاث وستين فحبس أبا الهيجاء وابنه وقبض على جماعة من أصحابه وأخذ أموالهم. ثم إنه طلب شيخاً من أهل الرملة يقال له أبو بكر محمد بن أحمد النابلسي كان يرى قتال المغاربة وبغضهم ويرى أن ذلك واجب ويقول: لو أن معي عشرة أسهم لرميت تسعةً في المغاربة وواحداً في الروم. وكان الحسن بن أحمد القرمطي لما انهزم عن مصر سار أبو بكر النابلسي إلى دمشق فأخذه ظالم بن موهوب وحبسه ونزل أبو محمود على دمشق لثمان بقين من رمضان فتلقاه ظالم فأنس به أبو محمود فأخرج إليه أبا الهيجاء بن منجا القرمطي وابنه وأبا بكر بن النابلسي فعلم لكل واحد منهم قفصا من خشب وحملهم إلى مصر فدخلوا إلى القاهرة في شوال فطيف بهم على الإبل بالبرانس والقيود وابن النابلسي ببرنس على جمل وهو مقيد والناس يسبونه ويشتمونه ويجرون برجله من فوق الجمل. وكان معهم بضع وعشرون رجلا من القرامطة على الإبل فلما فرغوا من التطواف ردوا إلى القصر فعدل بأبي الهيجا وابنه وبقية القرامطة إلى الاعتقال وسيق ابن النابلسي إلى المنظر ليسلخ فلما علم بذلك رمى بنفسه على حجارة ليموت فرد على الجمل فعاد ورمى نفسه ثانيا فرد وشد وأسرع به إلى المنظر فسلخ وحشى جلده تبنا ونصبت جثته وجلده على الخشب عند المنظر. وأقام أبو محمود بدمشق وهي مضطربة قد كثر فيها الغوغاء وحمال السلاح وعظم النهب في القرى وأخذت القوافل فلم يقدر أبو محمود على ضبط أصحابه لقلة ماله فلم يكونوا يفكرون فيه ولا يرجعون عن شيء ينهاهم عنه وأخذوا في النهب وظالم بن موهوب يأخذ أموال السلطان من البلد ولا يدفع إلى أبي محمود شيئاً منها ويحتج أنه أخذ البلد من أبي الهيجاء وسار إليه بمكاتبة المعز له. هذا وكل من الفريقين يخاف الآخر وقد علم ظالم أن أهل دمشق تكره المغاربة فكان يدارى الأمر وكثر قطع المغاربة للطريق فامتنع الناس من الذهاب والمجيء وهرب أهل القرى إلى المدينة وأوحش ظاهر البلد فوقع بين المغاربة وبين أهل البلد الحرب أياما كثيرة قام فيها ظالم مع أهل البلد وقاتل المغاربة فانهزم وسار إلى بعلبك ووقع الحريق في البلد واشتد القتال فخرج وجوه أهل البلد إلى أبي محمود ولطفوا به فقال لهم: ما نزلت لقتالكم وإنما نزلت لأرد هؤلاء الكلاب عنكم يعني أصحابه . ففرح الناس واستبشروا وجاءوا إلى خيمته واختلطت الرعية بأصحابه وزال عنهم الخوف ودخل المغاربة فيما يحتاجون إليه فولى أبو محمود الشرطة لرجلين: أحدهما مغربي والآخر من الإخشيدية فدخلا في جمع عظيم إلى المدينة بالزمر فجلسوا في الشرطة وكان يطوف لهم طوف في الليل ومع ذلك فلم ينكسر حمال السلاح ممن يطلب الفتنة فرهب أبو محمود على مشايخ البلد وتهددهم فثار أهل الشر من الدماشقة ورأس الشطار فيهم ابن الماورد بسبب منازعة أهل البلد مع مغربي بسبب صبي فأراد المغربي أخذه فرفع البلدي السيف وقتل المغربي في السوق فعادت الفتنة وشهروا السلاح فاضطرب البلد وغلقت الأسواق وثار العسكر من جهة المقتول وصاح الناس في البلد بالنفير وكبروا على الأسطحة وخرج ابن الماورد في جماعة فاشتد القتال بين الفريقين وألقى المغاربة النار في الدور فخرج وجوه البلد ومشايخهم إلى أبي محمود وما زالوا به حتى بعث إلى العسكر وقد كادوا يغلبون أهل البلد فكفهم عن القتال وكان ذلك في آخر ذي الحج فسكن الأمر وخرج الناس إلى أبي محمود ودخل صاحب الشرطة المغربي إلا أن أهل الغوطة كانوا قد أووا إلى البلد خوفاً من النهب وكان فيهم ذعار وفي المدينة قوم من أهل الشر فاجتمعوا يأخذون المستضعفين ويجبون مستغلات الأسواق ويكبسون المواضع وينتهبونها فحسنت أحوالهم وكانوا يكرهون تمكن السلطان فهلك لذلك كثير من الناس. ومر صاحب الشرطة في الليل وهو يطوف البلد برجل معه سيف فأخذه وقتله فأصبح أهل الشر وقد خشوا من تنديد السلطان لهم فثاروا بالسلاح إلى صاحب الشرطة ففر منهم هو وأصحابه إلى معسكرهم وصعد العامة إلى المآذن فصيحوا: النفير إلى الجامع. فثار الناس بالسلاح وركب عسكر أبي محمود وطرحوا النار فيما بقى واشتد القتال وكثر القتل والحريق وعظم الخوف على البلد وعلا الضجيج وذلك لثلاث خلون من المحرم سنة أربع وستين. فبات الناس على ذلك وأصبحوا وقد اشتدت الحرب وقويت الدماشقة ونشأ فيهم من أهل الشر غلام يقال له ابن شرارة وقد ترأس وآخر يقال له ابن بوشرات وابن المغنية وقسم لكل واحد منهم حزب بأعلام وأبواق فأظهرت المغاربة قوتها وبذلوا سيوفهم في كل من قدروا عليه من الرعية ممن وجدوه بظاهر البلد. واستمر القتال أكثر من المحرم فخرج قوم المستورين إلى أبي محمود وما زالوا به حتى أجابهم إلى الصلح وصرف صاحبي شرطته وولى أبا الثريا من بانياس أميرا كان على الأكراد فعبر البلد أول صفر وقد أكمن له عدة من أهل الشر فثاروا به ووضعوا السلاح في أصحابه فقتل من أصحابه وانهزم إلى أبي محمود فركب العسكر وأخذوا كثيرا من الناس ووقع النفير في البلد واستمر القتال بين الفريقين صفر وربي الأول ثم وقع الصلح في أثناء ربيع الآخر. وولى محمود جيش بن الصمصامة البلد فأقام أياما ثم إن الناس ثاروا وقتلوا عدة من المغاربة وساروا يريدون جيشا ففر منهم ونهبوا ما كان له فعادت الحرب وطرح النار في المواضع. وأمر أبو محمود بأن تقصد أهل الشر دون غيرهم من الناس غير أن الرعية كانت تقاتل معهم فاشتد القتال إلى أول جمادى الأولى ونصبوا الحرب يوما بعد يوم من بكرة النهار إلى آخره والبلد ممتنع في جميع هذه الحروب والقتال من ظاهره ومعظمه على باب كيسان إلى باب شرقي وباب الصغير إلى باب الجابية. وكان عسكر أبي محمود من المغاربة عشرة آلاف سوى من تبعهم من غيرهم ومن حضروا من الساحل فكانت الحرب مستمرة تارة تظهر المغاربة على الدماشقة وتارة تهزم الدماشقة المغاربة وكانت المغاربة لا تظفر بأحد إلا قطعوا رأسه فقتلوا خلقاً كثيراً. وخلت الغوطة بحيث لم يبق فيها أحد وانحصر البلد فلم يقو واحد يدخل إليه بشيء البتة فغلت الأسعار وبطل البيع والشراء وقطع الماء عن البلد فعدم الناس القنى والحمامات فكانت الأسواق مغلقة والنساء جلوس على الطرق والرجال تصيح: النفير فساءت حال كثير من الناس في هذه الفتنة وماتوا على الطرق من القر والبرد وهم مع ذلك مجتهدون في القتال ونصبوا العرادات على أبواب البلد فلم تبطل الحرب يوما من الأيام وفي الليل تضرب الأبواق فيثور الناس من فرشهم ويسيرون بالمشاعل فيقيمون إلى الصباح. فلما تفاقم الأمر واشتد البلاء وقوى أهل الشر من أهل البلد وأكلوا أموال الناس كتب مشايخ البلد إلى محمود في الصلح وأحضروا ابن الماورد وابن شرارة وزجروهم وانصرفوا على أن أحداً لا يعارض السلطان في البلد وقد فتح المسلمون المصاحف والنصارى الإنجيل واليهود التوراة واجتمعوا بالجامع وضجوا بالدعاء وداروا المدينة وهي منشورة على رؤوسهم . وبلغ المعز ما وقع بدمشق من الحروب وما صارت إليه من الخراب فكتب إلى ريان الخادم وهو بطرابلس أن يسير إلى دمشق وينظر في أمر الرعية ويصرف أبا محمود عن البلد فقدم ريان إلى دمشق وأمر أبا محمود بالرحيل فسار في عدد قليل من عسكره وتأخر أكثرهم مع ريان ونزل أبو محمود في الرملة وورد عليه كتاب المعز يوبخه وكان صرف أبي محمود عن دمشق في شعبان سنة أربع وستين. هذا ما كان من خبر دمشق. وأما القاهرة فإنه طيف فيها في ذي القعدة سنة ثلاث وستين بنيف وأربعين رأساً جيء بها من الصعيد. وفي ذي الحجة نودى أن لا تلبس امرأة سراويل كبارا ووجد سراويل فيه خمس شقاق وآخر قطع من ثماني شقاق دبيقي. وفيه هلك رسول ملك الروم فسيره المعز في تابوت إلى بلد الروم. وركب المعز لكسر الخليج. وفيها منع المعز من وقود النيران ليلة النيروز في السكك ومن صب الماء يوم النوروز. وكثر الإرجاف بمسير الروم إلى أنطاكية. وفي يوم عرفة نصبت الشمسة في القصر. وصلى المعز صلاة العيد وخطب على الرسم الذي تقدم ذكره وانصرف إلى القصر فأطعم على الناس. وانتهت زيادة ماء النيل إلى سبع عشرة ذراعاً وجرى الرسم في الجائزة والخلع والحملان لابن أبي الرداد على العادة. وفيها حدث وباء بمصر فمات خلق كثير. ومات القاضي أبو حنيفة النعمان بن محمد بن منصور بن أحمد بن حيون. ثم دخلت سنة أربع وستين وثلاثمائة والخليفة أمير المؤمنين المعز لدين الله معد. والخراج ووجوه الأموال إلى يعقوب بن كلس وعسلوج. والقاضي أبو طاهر محمد بن أحمد. والشرطة السفلى إلى جبر بن القاسم. والشرطة العليا إلى جبر المسالمي. وصاحب المظلة شفيع الخادم الصقلبي. وإمام الجمعة عبد السميع بن عمر العباسي. وصاحب بيت المال محمد بن الحسين بن مهذب. وإمام الخمس الحسن بن موسى الخياط. والمحتسب عبد الله بن ذلال. وفي المحرم قدم أفلح الناشب من برقة فخرج إليه بالجيزة وجوه الدولة والقاضي والرعية وأنزل بمكان. وورد الخبر بخلع نفسه وبيعة ابنه الطائع. وأطلق أبو الهيجاء بن منجا القرمطي وابنه وخلع عليه وحمل وأطلق معه بضعة عشر من القرامطة. ولست بقين من ربيع الآخر توفيت أم المعز. وفي جمادى الأولى أطلق المعز الجائزة لوفد الحجاز من الأشراف وغيرهم ومبلغها أربعمائة ألف درهم. وقلد أبا الحسن محمد بن محمد بن عبيد الله بن الحسن الحسيني الكوفي قضاء الشامات ودار الضرب والحسبة وحمل على بغلة وبرذون ومعه ثلاثة عشر تخت وستة آلاف درهم وكتب له وضمن أبو عبد الله الحسن بن إبراهيم الرسي وأبو طاهر سهل بن قمامة خرج الأشمونين وحربها وخلع عليهما وسارا بالبنود والطبول. وضمن أبو الحسن على بن عمر العداس كورة بوصير وأعمالها وخلع عليه وحمل وسار بالبنود والطبول. واعتل الأمير عبد الله بن المعز ومات لسبع بقين منه بعد جدته بتسعة عشر يوماً فجلس المعز للعزاء ودخل الناس بغير عمائم وفيهم من شوه نفسه وأظهر الجزع الشديد فكان المعز يسكنهم ويقول: اتقوا الله وارجعو إلى الله. وغلقت الأسواق ثم جلس الناس بزيهم ومنهم قيام فأمر القاضي محمد بن النعمان بغسله والمعز يتحدث ويسأل عن آي من القرآن وعن معانيها لأن القراء كانوا يقرءون ووصف ابنه عبد الله بالفضل والبر فقال له أبو جعفر مسلم: أعوذ بالله من فقد الولد البار فقال له المعز: فما تقول في الولد العاق والأخ العاق يعرض له بابنه جعفر وبأخيه عبد الله وكونهما مع فقال له أبو جعفر مسلم: إذا بليت بالولد العاق والأخ العاق كان في الله وفي بقاء مولانا منهما عوض. فقال له المعز: لا صان الله من لا يصونك ولا أكرم من لا يكرمك ولا أعز من لا يعزك ولا أجل من لا يجلك. فقام أبو جعفر وقبل الأرض هو وجماعة من في المجلس وشكروه على قوله. ثم خرج تابوت عبد الله وحوله أهل الكوفة بالصراخ والبكاء فصلى عليه المعز ودخل معه حتى واراه في القصر. وفي جمادى الآخرة ورد الخبر بموت عبد الله أخي مسلم بظاهر البصرة كما تقدم وبموت المطيع ببغداد وأن موته كان في المحرم وأن ابنه الطائع سمه وأن فتنة وقعت ببغداد بين الترك والديلم وبين الرعية والشيعة وغلا السعر ونهبت الأسواق والدور وأن أبا تغلب بن حمدان رحل إلى بغداد متوسطاً بين الطائع وبختيار. وفيه سار نصير الخادم الصقلبي عبد المعز إلى الشام في عسكر كثير ودخل بيروت.
وفي أول رجب أصلح جسر القسطاط ومنع الناس من ركوبه وقد كان أقام ستين معطلاً. وركب المعز إلى المقس وسار على شط النيل ومعه أبو طاهر القاضي يحدثه حتى عبر وفيه وردت رؤوس من المغرب عدتها ثلاثة آلاف فطيف بها وذلك أن خلف بن جبر صعد في بني هواس إلى قلعه منيعة فاجتمع عليه كثير من البربر فزحف إليه يوسف ابن زيرى فكانت بينه وبينهم حروب عظيمة قتل فيها خلائق كثيرة حتى أخذ القلعة في عاشر شعبان ففر خلف وقتل بها آلافاً كثيرة بعث منها سبعة آلاف رأس إلى القيروان فطيف بها ثم حمل منها إلى مصر ما ذكر. وفيه وقع الجدري في كثير من الناس وأقام شهوراً. وكانت وقعة مع الروم بطرابلس. وفي شعبان وصل أفتكين بعسكر من الأتراك إلى دمشق وورد كتابه على المعز وهو يستأذن في المسير فشاور المعز أبا جعفر مسلم فقال: هم قول غدر فإن تأذن لهم غلبوا على دمشق. فشرع المعز في تعبئة العساكر وإنفاذها لقتاله. وكان من خبر أفتكين أن الديلم والأتراك اختلفوا ببغداد فأراد عز الدولة أبو منصور بختيار بن معز الدولة أبي الحسين أحمد بن بويه الديلمي سلطان العراق أن يقبض على سبكتكين التركي وكانت الأتراك تتعصب معه وهم في أربعة آلاف هو أميرهم فغلبوا بختيار وخرج عن بغداد وغلب سبكتكين التركي عليها وكان في قوة من المال والسلاح والرجال فلم تطل مدته بعد غلبته على بغداد وهلك فاستخلف من بعده على الأتراك أفتكين الشرابي مولى معز الدولة بن بويه وكان شجاعاً ثابتاً في الحرب فسار بالأتراك من بغداد لحرب الديلم فجرى بينهم قتال عظيم. وقاتل أفتكين حتى تفرق من حوله إلا يسيراً وانهزم صاحب رايته فلحقه وضربه باللت وأخذها من يده وحمل على الديلم فقتل منهم كثيراً باللتوت ثم حمل عليهم الديلم فانهزموا وأفتكين في نحوا الأربعمائة من الأتراك فأخذ على الفرات حتى نزل الرحبة ثم أخذ في البر وقد أظهر من المهابة ما لم يتجاسر العرب على نهبه فنزل جوشية من قرى الشام فجمع له ظلم بن موهوب العقيلي وهو حينئذ على بعلبك من قدر عليه من العرب وأنفذ إلى أبي محمود قبل أن يسير عن دمشق يطلب منه عسكراً فأنفذ إليه جماعة وخرج يريد أفتكين وهو في ألفين فسار يريد جوشية. وبعث أبو المعالي ابن حمدان بشارة الخادم من حمص في ثلاثمائة رجل إلى جوشية مدداً لأفتكين على ظالم فبعث بشارة إلى ظالم فصرفه عن محاربة أفتكين وعاد إلى بعلبك وسار بشارة بأفتكين فنزل بأفتكين بظاهر حمص ووعده عن مولاه أبي المعالي بكل جميل وحمل إليه أبو وسأله أفتكين أن يوليه كفر طاب ويكون تبعاً له فما هو إلا أن ورد عليه رسول بن الماورد الشاطر من دمشق بأن يسير إلى دمشق وأنه يخرج إليه بأهل البلد ويقاتلوا عسكر المغاربة ويملكوه عليهم فوقع ذلك منه بموقع فبعث إلى أبي حمدان يقول: إني نظرت في الذي وليتني فإذا هو لا يقوم بمن معي من الغلمان وإني أريد أن أرجع إلى بغداد. فقال: افعل ما تراه. فسار كأنه يريد أن يأخذ طريق البلد إلى بغداد وأخذ نحو دمشق وقد نزل ريان عليها وجاءته أخبار طرابلس: بأن العدو قد خرج ونحن نخاف علي البلد أن يؤخذ فانزعج وخاف على طرابلس وإذا بالخبر ورد عليه بأن أفتكين قد توجه نحوه بموافقة أهل البلد فعرض عساكره وبرز يريد عقبة دمر. وأصبح أفتكين على ثنية العقاب ولم يعلم بأن ريان الخادم قد ارتحل عن البلد بجميع أصحابه حتى لم يبق منهم أحد فوصل إلى البلد وقد أجهده وأصحابه التعب لأيام بقيت من شعبان. ونزل بظاهر البلد فخرج الناس إليه واستبشروا به وسألوه أن يملكهم ويزيل المصريين ويكف عن الأحداث فأجابهم واستحلف على الطاعة والمساعدة وحلف لهم على الحماية وكف الأذى عنهم منه ومن غيره. وقطع خطبة المعز وخطب للطائع وقمع أهل العبث فهابته الكافة وصلح به كثير من أمر البلد وأقام أياماً وشاع خبر العدو أنه قد أقبل في جيش عظيم فاستعدوا لقتاله ونزل العدو على حمص فلم يعرض لأحد بأرض حمص لهدنة كانت بينه وبين أبي المعالي ابن حمدان. وسار أفتكين إلى بعلبك في طلب ظالم ففر منه فنزل أفتكين بعلبك وكانت العرب قد استولت على ما خرج عن سور دمشق فأوقع بهم أفتكين وقتل كثيراً منهم وظهر منه حسن تدبيره وقوة نفس وشجاعة فأذعن الناس له وأقطع البلاد فكثر جمعه وتوفرت أمواله وثبت قدمه وملك بعلبك من ظالم بن موهوب فقصده الروم وعليهم الدمستق فقاتلهم أشد قتال ثم كثروا عليه فانهزم. ودخل الروم بعلبك فأخذوا منها ومما حولها سلباً كثيراً وأحرقوا وذلك في شهر رمضان وانتشرت خيلهم وسراياهم في أعمال بعلبك والبقاع تحرق وتسبى وامتدوا إلى الزبداني فأخذ الناس عليم المضايق ومنعوهم من الدخول إلى الوادي. وخرج من دمشق قوم فخاطبوا كبير الروم في الهدنة فطلب منهم مالا لينصرف عن البلد فخرج إليه أفتكين ليخاطبه عن البلد وأهدى إليه من كل ما كان معه من بغداد فأكرمه وقربه فخاطبه أفتكين في أمر البلد وأعلمه بأنه خراب ليس فيه غير حمال السلاح ولا مال فيه فقال له: ما جئنا لنأخذ مالاً وإنما جئنا لنأخذ الديار بأسيافنا وقد جئتنا بهدية وقد أجبناك إلى ما طلبت وغرضنا فيما نأخذه من المال أن يقال بلد ملكناه فأخذنا هديته. فقال أفتكين: هذا بلد ليس لي فيه إلا أيام يسيرة ولم آمر فيه ولم أنه وقد خرج معي إليك رجل له يد في البلد يمنعني من كل ما أفعله. وقد كان خرج معه علاء بن الماورد فقال: ومن يدفعك عما تريد قال: هذا وأصحابه. فأمر بالقبض على بن الماورد فقبض وقيد وجرت الموافقة مع أفتكين على أنه يجبي المال ويكون على سبيل الهدنة ويكف عن دمشق وأعمالها فعاهده ملك الروم على ذلك وكان أبو محمود إبراهيم بن جعفر حينئذ بطبرية فبلغه خروج أفتكين إلى الروم فسير جيش بن الصمصامة في نحو الألفين ليأخذ دمشق فسرى من طبرية وكان شبل بن معروف العقيلي على شينيه وليس لجيش به علم فركب إليه شبل في جمع من العرب فواقعوه فانهزم وأتى الخبر إلى أفتكين وقد خرج من عند ملك الروم فخرج الأتراك وأدركوهم فقتلوا منهم كثيراً وأخذ جيش أسيراً فبعث به أفتكين إلى الروم وهو مقيم على عين الجر ينتظر المال. وجبى له أفتكين من دمشق ثلاثين ألف دينار بالعنف ورحل فنزل على بيروت وبها نصير الخادم من قبل المعز فلم يزول الرومي يراسل أهل بيروت: إني لا أريد خراب بلدكم وإنما أريد أن تسلموا إلي هذا الخادم ومن معه وأجعل عندكم من قبلي من يدفع عن بلدكم. حتى خرج إليه نصير ومن معه فأخذهم وولى على بيروت من قبله شخصا في مائتي رجل. وسار فنزل على طرابلس وفيها ريان الخادم الذي كان على دمشق في خلق من المغاربة فقاتلوه أشد قتال. ونزل بالرومى مرض فرحل إلى بلده وهلك في الطريق. وتمكن أفتكين من دمشق فأنفذ شبل بن معروف العقيلي إلى طبرية ففر عنها أبو محمود بمن وقدمت جيوش المعز وفيها كثر مخافتهم العرب واقتتلوا بجوار بيت المقدس مع العرب فظهر العرب عليهم وهزموهم وقتلوا كثيراً منهم وسيروا عدة منهم إلى دمشق فطيف بهم في الأسواق على الجمال وملأوا بهم الحبوس فأقاموا في ضر ثم ضربوا أعناقهم وكان مع ذلك أفتكين طوال مقامه بدمشق يكاتب القرامطة ويكاتبونه. وركب المعز يوم عيد الفطر فصلى وخطب على رسمه المعتاد وورد عليه الخبر بوقعة ريان بالرومى وهزيمة الروم وقد أسر ريان منهم وقتل وغنم فسر المعز بذلك وتصدق ودخل الناس عليه فهنأوه وقال الشعراء في ذلك وفي خلع المطيع شعراً كثيراً. وبعث إلى الحجاز بالأموال والنفقة وكسوة الكعبة. ووردت رؤوس من المغرب فطيف بها. وقدم إليه من المغرب ماء للشرب من العين التي أجراها. وأنفذ رسولا إلى القرامطة برسالة إلى الأحساء. وفيه ثارت فتنة بين المصريين والمغاربة فقبض على جماعة وضربوا. وفي ذي القعدة نودي لخمس خلون منه في الجامع العتيق: الحج في البر. وكان قد انقطع منذ سنين. وفيه مات عبد الله بن أبي ثوبان وكان قد نصبه المعز للنظر في مظالم المغاربة فتبسط في الأحكام بين المصريين وقال في كتبه: قاضي مصر والاسكندرية وشهدت عنده شهود مصر من المعدلين. وفيه خاطب المعز علي بن النعمان بالقضاء وأذن له في النظر في الأحكام فجلس في داره ومسجده ونظر في الأحكام. وطيف برؤوس من الأعراب والروم وردت من الشام ومن الصعيد. وقدم للنصف منه جواب القرامطة من الأحساء فخلع على الرسول وعلى جماعة معه وحملوا. وفيه طلع نجم الذنب عند الفجر وله شعاع كبير فأقام أياماً واضطرب الناس ولما رآه المعز استعاذ منه. وطلبت العبيد الصقالبة من جميع الناس وأخذوا بالثمن. وانفرد عسلوج بن الحسن بالديوان والنظر في أبواب المال كلها. وفي مستهل ذي الحجة طيف برؤوس على رماح يقال عدتها إثنا عشر ألف رأس وردت من المغرب فيها رأس خلف بن جبر وقد ثار بالمغرب واجتمع عليه البربر فظفر به يوسف ابن واعتقل جماعة من الإخشيدية والكافورية وطولبوا ببيع عقارهم ورد ما باعوا منه. ووردت هدية أبي محمود من الشام وهي مائة فارس وأحمال مال. وبرز ركب المعز يوم عيد النحر على رسمه فصلى وخطب وأطعم الناس بالقصر. وكسر الخليج ولم يركب إليه المعز. وفي يوم النوروز زاد اللعب بالماء ووقود النيران وطاف أهل الأسواق وعملوا فيلة وخرجوا إلى القاهرة بلعبهم فأقاموا على ذلك ثلاثة أيام وأظهروا السماجات في اللعب بالأسواق فأمر بالنداء أن يكف عن اللعب وأخذ قوم فطيف بهم وحبسوا. وأمر أن يكون في الشرطة السفلى فقيهان يجلسان ثم صرفا. وورد الخبر بوقعة كانت لأبي محمود مع ابن الجراح الطائي بناحية طبرية. وأمر المعز بتغيير المكاييل والموازين وجعلت الأرطال من رصاص. وأمر المعز القاضي أبا طاهر وشهوده أن يرفعوا إليه أخبار البلد ولا يكتموه شيئاً ونصبوا لذلك رجلاً فامتنع. وبلغ النيل بزيادة الجديد سبع عشر ذراعاً وتسعة عشر إصبعاً فأمر لابن أبي الرداد بالجائزة والخلع والحملان على عادته. أبو جعفر أحمد بن القاضي النعمان بن محمد بمصر يوم الثلاثاء خامس ربيع الأول. وحسن بن سعيد الأفرنجي بالقاهرة فصلى عليه المعز ودفن بها. وإسماعيل بن لبون الدنهاجي وصلى عليه المعز. وعلي بن الحرسي صاحب الخراج. ومات حسن بن رستق الدنهاجي. ومات أيضاً أبو الفرج محمد بن إبراهيم بن سكرة في ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلاثمائة والأمر على حاله إلا أن القضاء بيد أبي طاهر محمد بن أحمد واشترك معه القاضي علي بن النعمان فكان كل منهما ينظر في داره. وتثاقل يعقوب بن كلس عن حضور الديوان وانفرد بالنظر في أمور المعز في قصره. وفي المحرم عمرت كنيسة بقصر الشمع. وورد سابق الحاج فأخبر بإقامة الدعوة بمكة ومسجد إبراهيم يوم عرفة ومدينة الرسول وسائر وكان هذا أول موسم دعى فيه للمعز بمكة ومدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر المعز بذلك وتصدق شكراً لله. وورد كتاب أمير مكة جعفر بن محمد بن الحسين بن محمد بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وكتاب أخيه الحسن بن محمد الحسني وهو أخو صفية امرأة عبد الله بن عبيد الله أخي مسلم يسأل الإحسان إلى أخته صفية وكانت مستترة فأمر برد ضياعها وريعها وتسليم ذلك إليها فأحضر يعقوب بن كلس القاضي أبا طاهر وشهوده وأشهدهم في كتاب عن المعز أنه أمره برد ضياعها ورياعها إليها فظهرت وأمنت. وكتب جعفر بن محمد الحسني أمير مكة يسأله في بني جمح أن يرد حبسهم إليهم الذي بمصر وفي ولد عمر وبني العاص أن يرد حبسهم بمصر إليهم فأطلق المعز ذلك لبني جمح. وورد رسول ملك الروم فغلقت الحوانيت وخرج الناس تنظر إليه. قال ابن الأثير وكان سبب موت المعز أن ملك الروم بالقسطنطينية أرسل إليه رسولاً كان يتردد إليه بإفريقية فخلا به المعز بعض الأيام وقال له: قال: نعم قال: وأنا أقول لك لتدخلن علي ببغداد وأنا خليفة. فقال له الرسول: إن أمنتني ولم تغضب قلت لك ما عندي. فقال له المعز: قل وأنت آمن. فقال: بعثني إليك الملك ذلك العام فرأيت من عظمتك في عيني وكثرة أصحابك ما كدت أموت منه ووصلت إلى قصرك فرأيت عليه نوراً غطى بصري ثم دخلت عليك فرأيتك على سريرك فظننتك خالقاً فلو قلت لي إنك تعرج إلى السماء لتحققت ذلك ثم جئت إليك الآن فما رأيت من ذلك شيئاً أشرفت على مدينتك فرأيتها في عيني سوداء مظلمة ثم دخلت عليك فما وجدت من المهابة ما وجدته ذلك العام فقلت إن ذلك كان أمراً مقبلاً وإنه الآن بضد ما كان فأطرق المعز وخرج الرسول من عنده وأخذت المعز الحمى لشدة ما وجد واتصل مرضه حتى مات. وقال ابن سعيد في كتاب المغرب: إن المعز أنفذ إلى ابن السوادكي فقال: من لك بالحجاز من التجار تكاتبه اكتب إلى من تراه منهم بأن يكتب إلى عدن بحمل ما يقدر عليه من خشب الأبنوس الحسن التلميع التام الطول الغليظ مما لا غاية وراءه. فكتب إلى تاجر بمكة وأكد عليه فما كان إلا نحو شهرين حتى عاد جوابه أنه وجد منه ما ليس له في الدنيا نظير وحمله في مركب فسر بذلك وبكر إلى المعز فأخبره الخبر وأنه في القلزم فأطرق وتغير لونه فقال له: يا مولانا هذا يوم فرح وسرور بأن تطلب أمراً يكون بعد مدة فيسهله الله في أقرب وقت. فقال: يا محمد ليس يدري إلى حيث خرجت. ثم سار خارجاً إلى ظاهر القاهرة وهو يقرأ سورة الفتح إلى آخرها ويرددها كلما فرغ منها ورجع فاعتل بعد جمعة وترددت به العلة فمات في الشهر الخامس وما طلبه منى ولا أذكرته قال ابن زولاق: ولأربع خلون من صفر ورد حاج البر وقد كان البر أقام سنين لم يسلك.
وفيه حضر على بن النعمان القاضي جامع القاهرة وأملى مختصر أبيه في الفقه عن أهل البيت ويعرف هذا المختصر بالاقتصار وكان جمعاً عظيماً. وفي ربيع الآخر وردت رسالة القرامطة بأنهم في الطاعة. وفيه أذن المعز لجماعة المصريين فدخلوا عليه وخاطبهم وهو على سرير الملك فصاح به رجل منهم: يا أمير المؤمنين قال الله عز وجل : يا أمير المؤمنين لننظر كيف تعملون. وقال: صدق الله كذا قال عز وجل ونسأل الله التوفيق. واعتل المعز لثمان خلون من ربيع الأول فأقام ثمانياً وثلاثين يوماً ووصف له البطيخ البرلسي يؤخذ ماؤه فطلب بمصر فلم يوجد سوى واحدة اشتريت بخمسة دنانير ثم وجد منها ثماني عشرة بطيخة اشتريت بثمانية عشر ديناراً وكان الناس يغدون إلى القصر ويروحون والذي فلما كان لأربع عشرة بقيت من ربيع الآخر اشتدت العلة. وعرف باجتماع الناس وكثرة الرقاع في الظلامات والحوائج وسئل فيمن ينظر في ذلك فأمر أن ينظر فيه ولي عهده نزار فاستخلفه وخرج السلام إلى الناس فانصرفوا. وخرج القائد جوهر وموسى بن العازار الطبيب بالعزيز فأجلسوه وخرج إليه إخوته وعمومته وسائر أهله فبايعوه ثم أدخل إليه أكثر الأولياء فبايعوه وسلموا عليه بالإمرة وولاية العهد فابتهج الناس بذلك. ودخل عليه من الغد القاضي أبو طاهر وجماعة الشهود والفقهاء فسلموا عليه بولاية العهد وقبلوا له الأرض فرد عليهم أحسن رد وأخبرهم بأن المعز بخير قال: مولانا صلوات الله عليه في كل عافية وسلامة في أحواله وفي رأيه لكم وانصرفوا. وكان يوم جمعة فدعا له عبد العزيز بن عمر العباسي على منبر الجامع العتيق بعد أن دعا للمعز فقال: اللهم صل على عبدك ووليك ثمرة النبوة ومعدن الفضل والإمامة عبد الله معد أبي تميم الإمام المعز لدين الله كما صليت على آبائه الطاهرين وأسلافه المنتخبين من قبله. اللهم أعنه على ما وليته وأنجز له ما وعدته وملكه مشارق الأرض ومغاربها. واشدد اللهم أزره وأعز نصره بالأمير نزار أبي المنصور ولي عهد المسلمين ابن أمير المؤمنين الذي جعلته القائم بدعوته والقائم بحجته. اللهم أصلح به العباد ومهد لديه البلاد وأنجز له به ما وعدته إنك لا تخلف الميعاد. وتوفي المعز لدين الله عشية هذا اليوم ليلة السبت السادس عشر من شهر ربيع الآخر وقيل يوم الجمعة حادي عشر وقيل ثالث عشر ولم يظهر ذلك ولا نطق به أحد مدة ثمانية أشهر. وقيل إن السيدة لما اشتدت علة المعز أحضرت القائد جوهر وهو ملتف في برد من. وحضر يعقوب بن يوسف بن كلس وعسلوج القائد وأفلح الناشب وطارق الصقلبي فقالوا للمعز: نريد أن تبصرنا رشدنا وتعلمنا لمن الأمر. فلم يجبهم فقال له جوهر: قد كنت سمعت منك قولاً في هذا استغنيت به عن إعادة السؤال غير أنهم أكرهوني على الدخول. وقال لهم: قابلتموني بما لا يجب وبكى. فخرجوا فلما كان اليوم الثالث مات فصار العزيز إذا رفعت إليه الأمور يدخل كأنه يشاوره ويخرج بالأمر. قال ابن زولاق: وكان يعني المعز في غاية الفضل والاستحقاق للإمامة وحسن السياسة. وكان مولده سنة تسع عشرة وثلاثمائة أدرك من أيام المهدي جد أبيه أربع سنين وتوفي القائم وللمعز ست عشرة سنة.
واجتمع للمعز بمصر ما لا يجتمع لآبائه وذلك أنه حصل له بالمغرب أربعة وعشرون بيتاً من المال: منها أربعة عشر خلفها المهدي ولم يخلف القائم عليها شيئاً وخلف المنصور بيتاً واحداً وكسوة وأضاف إليها المعز تسعة فصارت أربعة وعشرين بيتاً أنفق أكثرها على مصر إلى أن فتحت ودخلها وحصل له من مال مصر أربعة بيوت سوى ما أنفقه وسوى ما قدم به معه. واجتمع له أن خلفاءه بمصر استخرجوا له ما لم يستخرج لأحد بمصر فاستخرج له في يوم واحد مائة ألف دينار وعشرون ألف دينار.
وهزمت القرامطة في أيامه أربع مرار: مرتين في البر على باب مصر ومرتين في البحر وما تم عليهم هذا قط منذ ظهر أمرهم. وأقيمت له الدعوة يوم عرفة في مسجد إبراهيم عليه السلام وبمكة والمدينة وسائر أعمال الحرمين ولم ترد له راية. وسار ابن السميسق ملك الروم إلى ريان عبد المعز وهو بطرابلس فانهزم وأخذت غنائمه وأسر رجاله. وكتب اسمه على الطرز بتنيس ودمياط والقيس والبهنسي قبل أن يملك مصر. وتتابعت له الفتوح. ودعى لفاطمة ولعلي عليهما السلام في أيامه على المنابر في سائر أعماله وفي كثير من أعمال العراق. ونصبت الستائر على الكعبة وعليها اسمه. ونصبت له المحاريب الذهب والفضة داخل الكعبة وعليها اسمه. وكاتب أهل العراق وأهل اليمن وأهل خراسان وأهل الحرمين والترك بالخلافة. وكان على التجهز للمسير للحج ثم إلى قسطنطينية للجهاد. وكان مقامه بمصر سنتين وسبعة أشهر وعشرة أيام. قال ابن الأثير: وولد بالمهدية من إفريقية حادي عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة. ومات وعمره خمس وأربعون سنة وستة أشهر تقريبا. وكانت ولايته الأمر ثلاثاً وعشرين سنة وعشرة أيام. وهو أول الخلفاء العلويين ملك مصر وخرج إليها. وكان مغرى بالنجوم. ويعمل بأقوال المنجمين قال له منجم إن عليه قطعاً في وقت كذا وأشار عليه بعمل سرداب يختفي فيه إلى أن يجوز ذلك الوقت ففعل ما أمره وأحضر قواده وقال لهم: إن بيني وبين الله عهداً أنا ماض إليه وقد استخلفت عليكم ابني نزار فاسمعوا له وأطيعوا. ونزل السرداب فكان أحد المغاربة إذا رأى سحاباً نزل وأومي إليه بالسلام ظنا منه أن المعز فيه فغاب سنة ثم ظهر وبقي مدة ومرض وتوفى فستر ابنه نزار العزيز موته إلى عيد النحر من السنة فصلى بالناس وخطبهم ودعا لنفسه وعزى بأبيه. وذكر القاضي عبد الجبار بن عبد الجبار البصري في كتاب تثبيت نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم المعز لدين الله وقال: واحتجب عن الناس مدة ثم ظهر وجلس في حرير فائق أخضر مذهب وعلى وجهه الجواهر واليواقيت وأوهم أنه كان غائباً وأن الله رفعه إليه وكان يتحدث بما يأتيه أهل الأخبار في وتعرض بالجمل دون التفصل. قال مصنفه رحمة الله عليه : ليس الأمر كما قال ابن الأثير فقد حكى الفقيه الفاضل المؤرخ أبو الحسن بن إبراهيم بن زولاق المصري في كتاب سيرة المعز وقد وقفت عليها بخطه رحمه الله أخبار المعز منذ دخل مصر إلى أن مات يوماً يوماً وأن المعز إنما عهد لابنه يوم الخميس لأربع عشرة بقيت من شهر ربيع الآخر قبل موته بيومين وذكر أن سبب العهد إليه اجتماع الناس بباب القصر وكثرة الرقاع وأنه سئل فيمن ينظر في ذلك فأمر ابنه نزار العزيز أن ينظر فيه فاستخلفه وقد ذكرت ملخص هذه السيرة فيما مر من أخبار المعز وأن ابن زولاق أعرف بأحوال مصر من ابن الأثير خصوصاً المعز فإنه كان حاضراً ذلك ومشاهداً له وممن يدخل إليه ويسلم مع الفقهاء عليه ويروى في هذه السيرة أشياء بالمشاهدة وأشياء مدته بها ثقات الدولة وأكابرها كما هو مذكور فيها إلا أن ابن الأثير تبع مؤرخي العراق والشام فيما نقلوه وغير خاف على من تبحر في علم الأخبار كثرة تحاملهم على الخلفاء الفاطميين وشنيع قولهم فيهم ومع ذلك فمعرفتهم بأحوال مصر قاصرة عن الرتبة العلية فكثيراً ما رأيتهم يحكون في تواريخهم من أخبار مصر ما لا يرتضيه جهابذة العلماء ويرده الحذاق العالمون بأخبار مصر وأهل كل قطر أعرف بأخباره. قال ابن الأثير: وكان المعز عالماً فاضلاً جوادا جارياً على منهاج أبيه حسن السيرة وإنصاف الرعية وستر ما يدعون إليه إلا عن الخاصة ثم أظهره وأمر الدعاة بإظهاره إلا أنه لم يخرج فيه إلى حد يذم به. وقال ابن سعيد في كتاب المغرب: إن جوهر القائد لما كان على عسقلان وهجم عليه العدو وأحرقوا خيمته وما قدروا عليه وقاتل الناس إلى أن كشفوا العدو وعادوا إلى مكانهم ترجل جوهر وقبل الأرض وقال: حذرني مولانا المعز بالمغرب وقال لي: احذر النار في عسكرك ببرقة فلما جزت بها تحفظت من النار فلما صرت في مصر: قلت الحق ما يقول مولانا وما هو إلا أن أعود إلى المغرب فيكون ذلك فيها فلما نزلت هذا المنزل عرفت أنه يقال له برقة وكنت والله خائفاً من قول مولانا حتى رأيته عياناً. قال: ولما بلغ المعز أن يوسف بن زيرى خليفته على المغرب قبض على صاحب خراجه بالمغرب غضب واستدعى إسماعيل بن اسباط ودفع إليه كتاباً مختوماً وقال له: أنت عندي موثوق به غير مستراب بك قل له يا يوسف تغير ما أمرتك به وتنسب ما فعلته لي والله لئن هممت بالعود إليك لآتينك ولئن أتيتك لا تركت من آل مناد أحداً بل من بلكانه لا بل من صنهاجة أخرج ابن الأديم فاردده إلى النظر في الخراج على رسمه وامتثل جميع ما أمرتك به ولا تخالف شيئاً منه. قال: فسرت بأحسن حال حتى دخلت القيروان فلم أجده فسرت إليه فلما رآني نزل وقبل الأرض لما ترجلت له وقيل بين عيني وقال: هذه العين الذي رأت مولانا. وأوصلت إليه السجل فقرأه سرا مع كاتبه وترجمانه وأديت إليه الرسالة بيني وبينه فعهدي به يرتعد وينتفخ ويسود ويقول: نفعل والله وكتب برد زيادة الله بن الأديم إلى نظره وأقمنا مدة. قال ابن سباط: فأنا راكب معه ذات يوم إذ ورد إليه نجاب بكتاب لطيف فقرأه عليه راكبا الترجمان فرأيته ضرب الفرس وحركه فأقامه وأقعده وهز رمحه في وجوه رجاله يمينا وشمالا وجعل يقول: أبلكين أمليح اسم أمه أزيرى أمليح اسم أبيه أمناد أمليح اسم جده. قال: فقلت في نفسي: خبر ورد إليه سره وأدرت فكري فوقف في أن مولانا المعز مات. فنظر إلى وجهي متغيرا فأخذني ونزل إلى دار إمارته فأدار إلى وجهه وقال: مالك تغير وجهك مات مولانا المعز فأحسن الله عزاك عنه. فقال: من أخبرك. قلت: أنت أخبرتني. قال: وكيف!. قلت: رأيتك قد عملت بعد قراءة الكتاب عليك ما لا أعرفه منك. فقال: قد صدقت قد مات مولانا المعز. قلت له: فيقدر أن أحدا لا يقوى من بعده في مجلسه. فقال: فقلت له: ينبغي أن تنتظر كتاب ولده الذي أتى من بعده فسيأتيك ما تحب. قال: صدقت واكتم ما جرى ولكن يا ابن اسباط بعدت مصر من المغرب وقد صار المغرب والله في أيدينا إلى دهر طويل. وأقمت فورد كتاب العزيز إليه يعزيه ويوليه فسر وخلع علي وسيرني. قال ابن سعيد عن كتاب سيرة الأئمة لابن العلاء عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسين بن مهذب. وأورد ليوسف بن زيرى خطبةً كتب بها إلى العزيز بن المعز جوابا عن كتابه يقول فيها: وأعوذ بالله أن أقول ما شنعه أهل الزور والجحود بل أنا عبد من عبيده أيدني بنور هدايته وألبسني قميص حكمته وتوجني بعز سلطانه وحملني أثقال علم ربوبيته واختصني بنفس كلايته وذكر أنه ولى عهده بعد ابنه الشاعر تميما ثم عزله وولى ابنه عبد الله إفريقية ثم ولى ابنه بمصر العزيز الذي صحت له الخلافة بعده. قال ابن سعيد: وقال ابن الطوير: لما دخل المعز قرأ أحد القراء عند دخوله وكان منجما : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا. فقال المعز: العاقبة. فقال حميدة. قال المعز: الحمد لله. ومن أحسن ما مدح به المعز قول الحسن بن هانىء فيه: إذا أنت لم تعلم حقيقة فضله ** فسائل عليه الوحي المنزّل تعلم فأُقسم لو لم يأخذ الناس فضله ** عن الله لم يعلم ولم يتوهّم وأيّ قوافي الشعر فيك أجولها ** وهل ترك القرآن من يترنّم وكان نقش خاتمه: بنصر العزيز العلم ينتصر الإمام أبو تميم. وكان يشبه في بني العباس بالمأمون في سفره من القيروان.
|